غزة في الساعة الخامسة والعشرين

04 اغسطس 2014
"الكارثة" لـ عبد الرحيم عقبي/ المغرب
+ الخط -

ما يقتلك، ليست نظراتُهم المتحجّرة وقد ارتقوا. إنها نظرة الناجي الوحيد من تحت الركام. ذلك الفتى بأعوامه الخمسة عشر. نظرته الساهمة تلك، وهو يسرح في خمسين سنتيمتراً أمامه. من هو القادر على قراءة النظرة؟ من يستطيع؟ الفتى الذي يشبه ولدك الأوسط. الفتى البهيّ في صورته على الشبكة. هو الذي ولا خنجر في القلب. ظللت تهذي وتقول لا يموت الناس إلا عندما تموت اللغة. ظللت تلوب وتتفرّس في العيون المتفحّمة، بنظرات متفحمة. ظللت تستجدي نقطة ماء لترتاح. نقطة في صيفك الرابع والخمسين. نقطة في هذا اليوم السابع عشر. في هذه الساعة الخامسة والعشرين. حتى جاء هو من حيث لا تحتسب. هو الطالع من تحت الركام. ترى صورته على الشبكة. ترى نظرته الساهمة تلك، فترتعش في نهار المدينة الصاخب. وتقوم وتقفل الشرفة لتتأمّله مجدّداً، تتأمله عميقاً أعمق من بئر وتفيض.

*

"الإف" تتقيّأ. البوارج تتقيأ. المدافع. الإعلام. كل شيء. وتتصل بولدك الكبير، وتنبّهه: كيلا يطالكم القيء؛ اجمع إخوتك ونم معهم في غرفة الدرج. يصرخ: جارنا نام وصارت الغرفة قبراً. تقول: نم في غرفة الدرج أقول لك. الغرفة صارت قبراً أقول لك. هل تسمعني؟ أسمعك ولا أريد. نم في غرفة الدرج. لن أنام. نم لأجل خاطري. لن أفعل، فالردم ثقيل جداً على فتى نحيف مثلي.

*

في الأربع الرياح. لا معطفٌ للريح. عارياً كما خُلقت. عارياً ولا تُرى. عارياً تمضي. وعارياً تقضي. لتبقى بعدك الحربُ القادمة. مقلاعُ داوود بإسناد أميركي. ومُطلّون على مآسٍ طويلة، بنصوص قصيرة.

بعدك ثرثارو العبث وقتلة أجنّة الأمل.

*

تنعق الإسطوانةُ المسجّلة في وجهها المريميّ: "أمامكم ثلاث دقائق للإخلاء. جيش الدفاع  سيدمّرالمنزل". الزوجة القوية، التي ترعى الآن أربع عائلات نازحة وقرابة خمسين روحاً، تزرق وتنهار. تتصل أختك الكبرى لاهثة: ماذا نفعل؟ تقول لها هذه حرب أعصاب موازية فلا تخافوا. ابقوا مكانكم، وواصلوا إعداد وجبة الإفطار. لن يحدث شيء. تقول: أنت متأكّد؟ وتنتهي المكالمة بحشرجة منها وبتوصية منك أن يُعيدوا لشريكة المصير وعيَها بالبصل والكولونيا.

تعود لحالك، وقد بدأت تتزعزع. من هو القادر على التأكيد في مهرجان الجنون هذا؟ يرنّ جرس الشقة وتفتح. إنه مانويل جارك الملاصق من ملقة. المكنسة في يده ويرفع حشية الباب وينظّف التراب. تشكره وتجامله، فيردّ: ناذا، ويلمّ التراب بالمغرفة.

مانويل بشورته وفانيلته وطقم أسنانه، لا يعرف مصائبك وإلا لشاركك فيها. تقفل الباب، وتسرح:

من هو القادر؟ وأين هو؟ وماذا لو جاءت الطوبة في رأس المعطوبة؟ أتكون حينها مسؤولاً على رُغم هذا النأي؟

تتردد وتفكر في إعادة الاتصال كي يُخلوا. لكنك تتخيّل المنظر وتحسب العواقب فتتراجع. تاركاً المصائر المستباحة لرحمة الله.

أو لِلُطف الصدفة، في روايةٍ أُخرى.

*

هذا الأحمر الناصع، سَوَّد نهاراتك ولياليك. طرطشاته الواصلة في بث مباشر، لم تُسوّد فحسب بل سمّمت الجسد أيضاً. الطبيب يعطيك منوّماً، وقد عرف قصة الأرق. وأنت، كما كل مرة، تذهب إلى الصيدلية وتأخذ الحبوب، وما إن تخرج حتى ترميها في أقرب سلّة.

حبوب بيضاء صغيرة يا دكتور فرناندو؟ أحتاج بالتأكيد أشياء أكبر من هذه. أشياء بجنازير وأجنحة وما شَابَه، يا عزيزي.

منوّمة والوقت مقتلة يا رفيق؟ يا إلهي كم أنت رائق وفائق.

كلا، سأظلّ أشرب قهوةً بعد ماء، وماءً بعد قهوة، حتى ينقشع الغبار العظيم. وأتيقّن وقتها أن عاهرة العالم  لن تسرق تضحياتهم، من خلف المحيط. وساعتئذ، سأنام نومة القتيل.

*

عن خديجة بنت صبحة في مخيّم النصيرات، عن جارتها وئام، عن جارها خليل، عن جارهم صلاح في مخيّم البريج، أنه قال: منيرة التي تسكن بالقرب منا وجدت أنف طفلها ضياء، بعد دفنه بأيام، فوق خزانة المطبخ. كما وجدت ثلاث أسنان لبنية تحت كنبة الصالة. استفتت شيخ الجامع أبو عبدالله، فأجاز لها التصرّفَ بعيداً عن الجثمان. لكنها أصرّت وراحت لتدفن البقايا بجوار القبر البعيد. وهناك جاءتها الرحمةُ القلبية سريعاً، فتمدّدت وارتاحت، بجسمها كاملاً، غير منقوص.

*

تنام، وعلى وسادة الحجر سؤالٌ: إذا كانت المدارسُ، المستشفيات، ملاجىءُ العَجَزة، المقابر، كلها دخلت في بنك أهدافهم، فكم سنتيمتر آمن في غزة الآن؟ كم سنتيمتر حقاً؟

العالم يمعن في مزاج الذبح، وأنت تغيب خلف غلالة البرزخ.

وما من جواب.

*

أشياء كثيرة تفتقدها وأنت على آخر ضفة للمتوسط. أصوات غابت، ولم يملأ أحد الفراغ بعدها: غابرييل غارسيا ماركيز. جوزيه ساراماغو. هارولد بنتر، وعشرات سواهم. مضى هؤلاء ولم يأت آتٍ بعدهم. فعلاً: ليست منطقتك ما تتصحّر وحدها، إنما أوروبا والعالم.

المساهمون