توقفَ القصفُ على غزة، ولكن لم يتوقّف الواقع المؤلم والنية، نيّة الخراب والإرهاب الذي يتجسّد في الكيان الإسرائيلي الصهيوني. ارتقى شهداءُ كثر، وسقطتْ بيوتٌ كثيرة، وتعمّقت جراح، واحترقتْ معالم كثيرة، منها شوارع تعجُّ بالحياة ومآربها. توالتْ الضربات على غزّة، استفحلَ الغزاةُ في عدوانهم، وهم لا يعرفون قيمة الأرواح وذكرياتها وآمالها وحقّها في الكرامة.
هل يعرفُ الغزاةُ الكرامة؟ هل يعرفُ من يُعذّبُ الآخرين، ويفرضُ عليهم أشدّ أصناف الويلات معنى كلمة "الكرامة"؟
قرأتُ كثيراً من النظريات في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانيّة، ولا تكادُ تكونُ هناك أفكارٌ كثيرة عن هذه الكلمة التي تختزلُ الكثير من عنفوان ومقاومة وإصرار غزّة على التحرّر والتحرير. تشغل النظريّات كثيراً نفسها بمفهوم القوّة، والسيادة والحرية، وقليلاً عن المقاومة، قليلاً عمّن عمَّ الظلم كافة مناحي حياتهم، فقاموا حقّاً من بين الركام، ثائرين لأن الثورة هي الأكثرُ بلاغة عن الرفض، رفض الاحتلال بكامل عقليته العنيفة التي تناقض الحياة الكريمة، والكرامةُ سرُّ الحياة وشعلةُ المقاومة.
اللغة أيضاً تقعُ ضحيّة حين تنقلبُ مشاهد الحياة وَيُهَدّدُ كلّ شيء بالموت. لا معنى لحياةٍ تحت آلات القصف والدمار والحصار إلا بقدر تَشبثْ الأحياء بحقّهم فيها، في العيش على أنقاض الدنيا ورؤوسهم لم تنحن ولم تقبل الذل.
المقاومة قطارُ حياة نحو الحريّة، وحتماً سيصل
هكذا رأيتُ غزة وأنا أشاهدُ أهلها يتحدّثون عنها: يسقطُ كلّ شيٍء، لكن لا تسقط فكرة التحرّر والإيمان بأنَّ ظلام الغزاة وظلمهم لن يعمّرَ كثيراً على هذه الأرض. غزة تنام وفي جرحها ثورة، وتصحو وصدرها لهبٌ يضيء الدنيا أملاً، وكلامها أسئلةٌ في عيونِ أطفالها: هل تكونُ كلّ الحياة حلماً بالحريّةِ والكرامة؟
قال لي أحدهم: لِمَ تدفع غزة كلّ هذه الأثمان؟ لِمَ لا تهدأُ وتقبل بالمغريات؟
فكّرتُ كثيراً في ذلك. لِمَ لا. لكنَني على يقين أنَّ هذا كلام الفاشلين. فشلٌ في إدراك معنى أن تكونَ حرّاً في وجه الظلام والظلم. البلاغةُ أيضاً تظلمُ إذا راوغتْ كثيراً ولم تعرفْ الممكن والحدود. أعرفُ ذلك. لكن ما العمل؟ أنستسلمُ لـ"إسرائيل"، لمنظومةٍ إجراميّة من الدرجة الأولى، تصرُّ على استعباد شعبٍ سلبتْ حقّه منذ أن عشّشتْ فكرة الفاشية الصهيونية في رأسها ورؤوس داعميها من بعض الحكومات الغربية المتغطرسة وبعض العرب الموغلين في التخلّف كطريقة حياة؟
الدمارُ ألمٌ كبير. والموتُ قسوةٌ على الأحياءِ، وعدمٌ للأموات.
المقاومة هي الماء الذي يجعلُ من كلِّ شيءٍ حيّاً في عالمٍ تصحّرت مشاعره أمام فلسطين الحق والحقيقة والإصرار على الحريّة.
يطولُ ليلكِ يا غزة. ويسوّدُ نهاركِ، ويعتصرُ قلبُ بحركِ دمعاً ودماً. لكن لا مفرَّ: ستقاومين وتقاومين.
تكونُ الحريّة أحياناً نهراً جافّاً، يشقُّ طريقة من باطنٍ أرضٍ جرداء.
الحربُ شبكةُ خرابٍ في نفوسِ البشر، وهي أيضاً عشُّ أملٍ في أرواحِ المقاومين.
ومن جدليّة الأحياء أمام ضيق الحياة يتصاعدُ الأمل، الأملُ الذي يعرفُ الألم واليأس، ويعرفُ أنَّ كلّ الاحتمالات واردة، لكن المقاومة ضدَّ الاستعمار قطارُ حياة نحو الحريّة، وحتماً سيصل.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن