عزيزتي آسية،
تحية طيبة،
... وأنا متّفق معكِ، أيّتها الصديقة، في ضرورة إنجاز ترجمة عربية جديدة لأشعار رامبو. وأرى أنّ رامبو لم يقعِ استيعابه لدى كثير من القرّاء والشعراء كما ينبغي له؛ فقد قُيّم أخلاقياً، واختُزل إلى مجرّد شاعر غنائي، هامشيّ صعلوك، خارج على المجتمع والقوانين؛ باختصار: مراهق جانح. وهذا أيضاً رأيُ معاصريه من عامّة الناس وليس من صفوتهم؛ لم يدركوا أنّ صعلكته وانحرافه الجميل يُحقّقان لفوضى الحواسّ دربها الملكيّ للخلق الشِّعري، أقول للرؤى التي يزخر بها شِعره.
عن فوضى الحواس كتب: "يتعلّق الأمر بإدراك المجهول من خلال اضطراب جميع الحواس. المعاناة هائلة، ولكنْ يجب أن تكون قويّاً، وأن تولد شاعراً، وقد أدركت أوّل ما أدركت نفسي شاعراً...".
وغاب رامبو الآخر، الذي أحدث رجّةً في الوعي الشعري الغربي شبيهةً بتلك التي أنجزها فريديريك نيتشه في الفلسفة وفان غوخ في الرسم؛ فخروجه على المجتمع ليس انحداراً أخلاقياً ـ وإنْ بدا كذلك ـ وإنما هو سموّ أخلاقيّ بما هو رفض وثورة، وتبشير ببزوغ عالم جديد...
فالوعي أيضاً تاريخيّ، أو ما يسميه جان بول سارتر الانبثاق التاريخي للأفكار. أي ثمّة شروط تاريخية لظهور الأفكار، فالأفكار لا تنزل من سماء الوحي.
هكذا نفهم التقارب في الرؤية والاختلاف في الأبجدية بين رامبو، ونيتشه، وفان غوخ، وهلدرلين: لقد شكّل هؤلاء الأربعة ـ الذين هُم من جيل واحد تقريباً ـ فاصلاً بين عصر يخبو ويتلاشى وآخر يبزغ.
رامبو بذرةٌ تفتّحت في حقول أزمنة وجغرافيات أُخرى
شِعر رامبو إفصاح عن كينونة الإنسان الجديد، تعبير عن الإحساس الوجودي الذي بزغ في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: الإنسان القلِق كما تجلّى في نصوص سورين كيركغارد؛ العصر الذي يسمّيه هنري ميلر عصر اليقظة. كانوا شهداء لا تقلّ معاناتهم عن معاناة شهداء المسيحية أيّام الرومان؛ رامبو الذي هدم حياته في باب المندب وانتهى في مستشفى الخيرية بمرسيليا مبتورَ الساق من جرّاء الغرغرينا؛ وهلدرلين الذي غرق في الجنون ستة وأربعين عاماً، وفان غوخ الذي عاش منبوذا في آرل، حيث قطع أذنه وقضى أيّامه الأخيرة معذَّباً في مصحّات الأمراض العقلية؛ ونيتشه الذي انسحب إلى الجنون وهو يجهش بالبكاء معانقاً ذاك الحصان الذي دخل تاريخ الفلسفة ذات صباح شتوي في مدينة تورينو الإيطالية...
كتابة رامبو الجديدة، أبجديته الشعرية، هي أيضاً صورة لعالم جديد كان يبزغ، وصرخة عنيفة ضدّ مجتمع يخبو، وتبشير بآخَرَ حديث يتشكّل، ساهمَ نصُّه في تشكّله، لأن الشاعر الحقيقي هو ابن المستقبل وقد وُلد قبل عصره...
أتذكّر يانيس ريتسوس في بيته بأثينا وهو يردّد على مسامعي بنبرة غنائية: "الشاعر الحقيقي هو ذاك الذي يُشبه المستقبل، لأنّ القصيدة الحقيقية هي التي تصوغ الرؤية الجديدة للعالم، بلغتها الجديدة". وقد صاغ رامبو الحساسية الشعرية الجديدة وأسّس الرؤية الجديدة، وبالتالي الأبجدية الشعرية الجديدة؛ لقد كان منحازاً بالمطلق إلى الحداثة، كان نبيّاً مبشّراً بالحداثة. كتب آلان بورير: "بالنسبة إلى رامبو، الكلّ يجب أن يكون حداثياً، ليس الشعُر فقط وإنما الحبّ، والمجتمع، والعِلم، والزهور والضجيج... والجسد بالخصوص. هذا الهاجس يتأسّس على كراهة كلّ ما هو قديم".
بعد رامبو لم يعدِ الشعر والشاعر كما كانا في الحقبة التي اختتمها وأغلقها فيكتور هوغو. والناس لم تعد تقرأ هوغو إلّا كجزء من أمجاد تاريخ الأدب الفرنسي وتقرأ رامبو لأنّه يخاطبها، لأنّها تجد نفسها في نصّه. تقرأ رامبو كمؤسّس للحساسية الحديثة، للشعرية الحديثة، للرّؤية الحديثة، ولأبجدية القصيدة الحديثة؛ تماماً كما هو موقع هلدرلين إزاء غوته.
رامبو بذرةٌ تفتّحت في حقول أزمنة وجغرافيات أخرى متباينة ومتباعدة...
انبعث رامبو في نصوص بول فاليري وأندريه جيد وبول كلوديل وهنري ميلر وبليز سندرار وبوب ديلان... وتناسخت حياته في حيوات كيرواك الذي ظلّ على الطريق، وفي حياة بليز سندرار الذي هو أيضاً تسلّل من شقّة العائلة وهو في السادسة عشرة، مثل رامبو تماماً. ألقى بنفسه من البلكونة واستقلّ أوّل قطار عبر به بلاد البلقان إلى سان بطرسبورغ وموسكو... وكتب قصيدته الرائعة، "نثر القطار العابر لسيبيريا" (La Prose du Transsibérien) في وهج الراديوم.
في ذلك الوقت كنتُ ما أزال في مراهقتي
كنت بالكاد في السادسة عشرة من عمري ولم أعد أتذكّر
طفولتي
كنتُ على مبعدة 16000 فرسخ من مكان ولادتي
كنتُ في موسكو، في مدينة الألف وثلاثة أبراج كنيسة وسبع محطات قطار
ولم تكن تكفيني المحطّات السبع
ولا الألف وثلاثة أبراج كنيسة
لأنّ سنوات مراهقتي كانت شديدة الحرارة ومجنونة
لدرجة أن قلبي كان يضطرم بالتناوب مثل هيكل أفسس
أو مثل الميدان الأحمر في موسكو
ساعة غروب الشمس
وأضاءت عيني الطرق القديمة.
وكنت بالفعل شاعرًا سيّئًا لدرجة أنّني لم أكن أعرف كيف أمضي إلى النهاية.
وكان الكرملين مثل كعكة التارتا الضخمة المكسوّة بالذهب.
انبعث رامبو في حركتَي الدادا والسريالية، بل كان البذرة التي انبثقت منها هذه الكتابة الجديدة التي تشتمل على الهذيان وعلى العقل. رامبو الذي أبدع نصوصاً دادائية متوحّشة قبل الدادا بعقود. نصوص تتضمّن كلّ تهويمات كتابة جماعة الدادا التي تتأسّس على التحرّر المطلق، والانفلات من كلّ القوالب المقدّسة، وعلى التلقائية، والآنيّة، وهدم القوانين والمنطق، وتجاوز التفكير الجامد، والمفاهيم التجريدية، والأفكار المطلقة.
لقد دشّن رامبو عصر اللاعقلانية الأدبية المتمثّل في حركتي الدادا والسريالية؛ اللاعقلانية التي تكشف حقيقة عالم الإنسان أكثر ممّا يفعل العقل. كان رامبو خَدِينَ التيار اللاعقلاني في الفلسفة الذي دشنه نيتشه وسورين كيركغارد.
يكتب جملاً متحرّرة مثل: "أحياناً أرى في السماء شواطئَ لا نهاية لها مغطّاة بأُمَمٍ بيضاء/ سفينة ذهب كبيرة فوقي ترفرف راياتها المتعدّدة مع نسائم الصباح"، أو: "شذرات أوراق الذهب تحيط ببيت الجنرال"، أو: "أنا القدّيس في حالة صلاة على الشرفة، مثل الحيوانات المسالمة التي ترعى حتى بحر فلسطين".
على صورة هذا الحلم، ولأجل هذا الحلم بعالم جديد، غادر رامبو الأسلوب الكلاسيكي في الكتابة وفي الحياة؛ كما فعل معاصره فان غوخ في الرسم إذ جعله يغادر، وللأبد، المدرسة، ممّا حدا ببيكاسو إلى القول: "منذ فان غوخ صرنا جميعاً عصاميين. كان الفن قبله قد سقط في اتّباع التقاليد وفي الأكاديمية، وكان علينا أن نعيد خلق اللغة التشكيلية".
لذا أنا معكِ، أيّتها الصديقة، في مشروع ترجمة عربية جديدة لأعمال رامبو. فهو يتجدّد في كلّ قراءة، والترجمة هي أيضاً قراءة. أجل، لا بدّ من إعادة ترجمة رامبو وتنزيله في زمنيّته، وإطلاق رؤاه في دينامية جديدة داخل اللغة العربية، أي داخل الثقافة العربية.
تتحدّثين عن عرْضِ ترجمتك على بعض الأساتذة؛ أقول بصدق: لستُ متحمّساً للمراجعات الأكاديمية، لتلك الترجمات التي ينجزها أساتذة الجامعات، أسرى المؤسّسة التعليمية: أراهم نوعاً من القواميس الناطقة. والقاموس هو مقبرة الكلمات. أتذكّر هنا كلمة خورخي لويس بورخيس: في هذه الأوقات الأخيرة لم ألتقِ أمّيّاً واحداً لا يحمل دبلوماً... هكذا صار عصرنا.
القاموس مقبرة الكلمات، كذلك هم أساتذة الجامعات
قد يكون هؤلاء الأساتذة متميّزين في ميدانهم الأكاديمي والتربوي، ولكنّ هذه الترجمات قاموسية باردة، تقنية وليست إبداعية؛ ترجمات ينقصها ذاك المجهول الذي يؤسّس النص الإبداعي، وتفتقد إلى صوت رامبو الزنجي كما يصفه ميلر؛ تفتقد لغته المشعّة.
عزيزتي آسية، حياة رامبو ونصوصه مثل البروق الصيفية التي تشتعل فجأة في السموات الراعدة؛ هي نقيض الأكاديميات وقاعات الدرس الباردة التي تُخرج النماذج المعلّبة...
تذكّري، هل الأستاذ الدكتور الكبير في العلوم السياسية سياسيّ؟ وهل أستاذ النظرية الشعرية شاعر؟ لا يوجد ـ سوى في تونس ـ نخبة تخلط بين النشاط التعليمي والتربوي وبين الثقافة والإبداع، وهكذا صار أستاذ التاريخ لديهم مؤرّخاً، ومدرّس الفلسفة فيلسوفاً، إلى آخر القائمة... لأنّ الترجمة الأدبية ليست مجرّد إتقان لغوي؛ هذه بديهة. الترجمة، مثل القراءة، عمل إبداعي؛ هي ـ كما يقال دائماً ـ إعادة خلق للنصّ الأصلي، حيث تصير الخيانة في النقل هي الوفاء الحقيقي. أقصد الخيانة الجميلة، لا تلك القائمة على جهل لغتَيْ المتن والنقل.
لذلك، كان لا بدّ أن يكون بودلير هو ناقل إدغار ألان بو إلى الفرنسية؛ وجيرار دو نرفال ناقل غوته إلى الفرنسية، لأنّ الترجمات الحقيقية تأسيسٌ للنصوص في لغات وجغرافيات أخرى، هي إطلاق للنصوص في دينامية جديدة داخل عوالم لغوية مغايرة... كما هي تناسخات "ألف ليلة وليلة" في السرد الغربي، من سيرفانتس إلى فلوبير إلى خورخي لويس بورخيس.
وكان من هذه الأرومة المبدعة صدقي إسماعيل، باعثُ رامبو في لغة العرب وشعريّتهم، وكذلك فعل رمسيس يونان؛ واليوم لا بدّ من عودة جديدة لرامبو في لغة الضاد، تزيل كثيراً من سوء الفهم...
آرل، 9 أيار/ مايو 2022
* شاعر ومترجم وناشر تونسي