لماذا لم تجد الثورات عامّةً تعبيراً روائياً معادلاً لها؟ وهل صحيح أنَّ الثورات لا تُغري الروايات، أو لا تُغري الروائيّين أنفسهم على الكتابة؟ فالمتابع لتاريخ الرواية قد يلاحظ قلّة عدد الروايات التي تتابع تفاصيل الثورات، فأكثر رواية نالت الشهرة عن الثورة الفرنسية مثلاً هي رواية "قصّة مدينتين" لـ تشارلز ديكنز، ومن الطريف أنه ليس فرنسياً، بينما لم تنل "ثورة أكتوبر" حظوةَ التخليد في أيّ رواية، واشتهر بدل ذلك كتاب الصحافي الأميركي جون ريد "عشرة أيام هزّت العالم"، والذي استطاع أن يسجّل أحداث تلك الأيام التي بدّلت تاريخ روسيا.
وأمّا رواية الروسي ميخائيل شولوخوف، "الدون الهادئ"، فلم تكن عن "ثورة أكتوبر" بالذات، أي لم تسجّل أحداث الأيام التي استطاع فيها الجنود والعمّال الروس إسقاط الحكم القيصري واحتلال قصر الشتاء كما فعل ريد، بل حاولت أن تعيد، روائياً، خلق وقائع الحرب الأهلية الروسية بين الجيشَين؛ الأبيض الذي شكّله المعادون للثورة بدعم من الغرب، والأحمر الذي بناه قادة الثورة أنفسهم.
وقد قيل إن ثورة 1919 في مصر قد لاقت تمثيلاً روائياً لها في ثلاثية نجيب محفوظ، غير أنّ الثلاثية ليست عن الثورة، بل عن المجتمع المصري في تاريخٍ ما يصادف أن تكونَ ثورةُ 1919 قد قاطعت حياة الشخصيات الروائية التي يتناول الروائُّي مصير أفرادها من آباء وأبناء.
والغريب أن تكون الحروب هي التي تمنح الروائيّين مواد متنوّعة للكتابة، حيث تشهد ساحات القتال تنوّعاً هائلاً في خيارات الناس، وفي مصائرهم.
تفترض الثورة، وخاصة أثناء حدوثها، مواقف حدّية واضحة من الروائي
وقد يكون السبب عدم اضطرار الروائي للالتزام بالانحياز لهذا الطرف أو لذاك في الحروب، كما يُطلب منهم في الثورات، لا لأنهم بلا مواقف، فمعظم الروائيّين في تاريخ الأدب كانوا يُعلنون مواقف مناصرة للثائرين ضد الظلم، أو للمقاتلين من أجل الحرية، أو للمناضلين من أجل رغيف الخبز، بل لأنّ الرواية بعالمها الفسيح تتطلّب خلق مسافة بين الكاتب والشخصيات، ومسافة أخرى بينه وبين اليقينيات، ومسافة بين معتقداته والمعتقدات المضادّة التي يجب أن يكتب عنها بأمانة واستقامة ونزاهة أخلاقية، بينما تفترض الثورة - وخاصّةً أثناء حدوثها - مواقف حدّية واضحة.
وفي الغالب فإنّ الثوّار، مثلهم مثل أصحاب السلطة أحياناً، قد لا يتفهّمون، وقد لا يتسامحون، مع أولئك الذين يُبدون مواقف متردّدة، أو يعلنون أنهم محايدون في الصراع بينهم وبين أنظمة الاستبداد. ويمكن لبعضهم أن ينزلق إلى اتخاذ موقف الحسم السلطوي المعروف: إمّا معي أو ضدّي. وهي مواقف تضع الروائي أمام تلك الحدود المرسومة أحياناً بقلم شديد اللهجة، يوضع فيها الناس، والروائي نفسه واحد منهم، أمام ذلك الخيار المحدود الضيق.
المشكلة أمام الروائي أكثر تعقيداً، إذ قد يحدث في الثورات الكثير من الأخطاء الجسيمة، ولكن التأييد في اللحظات المفصلية قد يتطلّب التغاضي عن تلك الأخطاء من الثوّار، غير أنه لا يمكن أن يكون خطّة روائية بأي حال. وقد تكون هذه المسألة الأخلاقية سبباً في إحجام عددٍ من الروائيّين، الذين رأوا بأنفسهم حجم ورداءة مثل تلك الأخطاء، عن الكتابة.
* روائي من سورية