"هناك مَن يطلق رصاصاً، وهناك مَن يزرع ورداً. ثمّةَ مَن يرفع جدراناً، وثمّة مَن يدمّرها كي يستطيع أن يعانق الأفق، أن يراه. هناك مَن يريد أن يرحل عن أرضه، وهناك مَن يريد أن يبقى كي يتغطّى بتراب الأرض التي يريد أن يبقى فيها، أن يسترجعها، أن يتنشق رحيقها قبل أن يموت فيها".
بهذه المقدّمة الشعرية يفتتح المنظّر السياسي والأكاديمي والسياسي اليساري الإسباني، خوان كارلوس مونيدرو (Juan Carlos Monedero)، مسرحية مُواطنه، الكاتب والمسرحيّ خاكوب آمو (Jacob Amo) التي صدرت مؤخّراً عن دار "منشورات إنفاسوراس" (Invasoras)، تحت عنوان "على الجدار".
تتحدث المسرحية عن المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني منذ أكثر من قرن، من وجهة نظر شابّين يعيشان في فلسطين، وكأنهما آلة متنقّلة من المشكلات، من شروق الشمس حتى غروبها: الماء، الهواء، الضوء، العائلة، السكن، التنقّل، المدرسة، الجامعة... إلخ. كلّ ذلك بسبب جدار العزل الذي بدأ الاحتلال الإسرائيلي بناءه في الثالث والعشرين من شهر حزيران/ يونيو عام 2002، معزّزاً بذلك سياسته الوحشية العنصرية بوصفه نظام فصل بالمقاييس كلّها.
نشأت فكرة المسرحية، كما يقول مؤلّف العمل نفسه (مواليد 1980)، في عام 2007. حين قدم إلى فلسطين للعمل في منظّمة إسبانية لاحكومية بين القدس ورام الله، وتمكّن من رؤية الواقع المرير والبشع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني محاطاً بجدار بناه الاحتلال الإسرائيلي، ليضيفه إلى قائمة اضطهاده من قتل واغتيالات واعتقالات وتمييز عنصري يومي على الصعد جميعها.
هكذا، خطرت في باله كتابة مسرحية يروي من خلالها الفظائع التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي في ظلّ تقاعُس ما يُعرَف بـ"المجتمع الدولي"، الذي يعرف جيّداً ما يحدث على أرض فلسطين، لكنّه يفضّل الصمت أو، في أحسن الأحوال، العبارات الفارغة التي لا ترافقها أفعال. حين غادر الكاتب فلسطين وعاد إلى بلاده، بقيت معه الصور والمشاهد والتجارب التي عاشها في فلسطين، والتي قدمها أخيراً في هذه العمل المسرحي.
مع تقدِّم المسرحية، يلاحظ القارئ أنَّ الجدار يأخذ معانيَ عديدة. فقد يكون واقعياً كما هو الحال في المسرحية، ووظيفته الرئيسية العزل، والسجن، والحجب أو الستر. وهذه المعاني ترمز بدورها إلى نهاية الحياة، أو إلى عوائق كبيرة يتعثّر بها الشعب الفلسطيني كلّ يوم، بما في ذلك انعدام الحرية.
ولكنّ الجدار يمكن أيضاً أن يكون مجازيّاً، بوصفه شيئاً افتراضياً وعائقاً نفسياً غير ملموس يمنعنا من بعض التصرّفات، فالقوانين والعادات والتقاليد أو الأعراف، كلّها جدران بين الناس وبين بعض تفاصيل الحياة ومناحيها.
لكلّ إنسان معركة عليه خوضُها
وما "الجدار العازل" المقام حالياً في فلسطين إلّا صورة عمّا تختزنه الذاكرة اليهودية من ثقافة الغيتوهات التي نشأت عليها التجمّعات اليهودية في بلاد الشتات، وأعاد المشروع الصهيوني تجسيدها بفكرة تجميع اليهود في غيتو دولة استيطانية.
يؤكد خاكوب، في مسرحيته، ضرورة هدم تلك الجدران، سواء أكانت حقيقية أم مجازية. فالحياة تنتصر في نهاية المطاف. والشعب الفلسطيني هو المثال الأفضل على ثقافة الحياة مقابل ثقافة الموت والقتل، القائمة على الطرف الآخر من الجدار، والتي يمثّلها المشروع الاستعماري الصهيوني.
ويصرُّ خاكوب في المسرحية، بلسان شخصياته، على ضرورة أن تكون لكل إنسان معركته التي يجب أن يقاتل من أجلها، في إشارة واضحة إلى شرعية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وبوصفه شاعراً ومسرحيّاً، فإنّ مؤلّف العمل لا يتردّد في التعبير بشجاعة عن معركته الأكثر إلحاحاً، ألا وهي استعادة اللغة من المُصادرة التي غيّبتْها. لقد سُرقت اللغة منا دون أن ندرك ذلك، وباتت الأشياء تُسمّى بطريقة خاطئة، أو بطريقة أكثر تناسُباً مع الطرف الذي يفرض سلطته ورؤيته بالقوّة.
صارت المقاومة تُسمّى "إرهاباً". أمّا الاحتلال، فصار يُعرف باسم "دولة": "إن تسمية الأشياء بشكلٍّ صحيح تغيّرنا. لغة أُخرى تخلق عقلية أُخرى، وهذه، بدورها، تخلق عالماً آخر من حولنا. نحن بحاجة إلى التفكير بشكل مختلف والتوقف عن الاعتقاد بأنه لا يمكننا فعل أي شيء. لقد حان الوقت لكي نتجرأ على استعادة كلمات مثل "المدينة الفاضلة" أو "التضامن"، لكسر المخطّطات وهدم الجدران وبناء الجسور بين الحضارات. من خلال استعادة اللغة، نستعيد الأمل الذي سلبوه منّا من خلال تلقيحنا بعبارات ملطّفة في أجسادنا لإخفاء الواقع وتشجيع الاستسلام والحفاظ على الوضع الراهن"، يؤكّد المسرحي الإسباني.
لا يتردد خاكوب في إقحام قارئ العمل كشخصية إضافية في المسرحية، عندما يوجّه أسئلة مفتوحة على لسان شخصيّاته، أراد من القارئ نفسه أن يتمعّن فيها أو أن يجيب عنها: هل من الممكن العيش بسلام عندما تعيش محاطًا بجدار؟ ما هو الثمن الذي يجب على المرء أن يدفعه من أجل هدم ذلك الجدار وجميع الجدران الأخرى؟ ما مقدار الألم والعذاب الذي يستطيع أن يتحمله المرء؟ وكيف لإنسان أن يحس بذاتيته في سياسة تقوم على العزل والقتل والتهجير والاضطهاد؟ لا يجيب خاكوب عن تلك الأسئلة، لأنه يؤمن أن المسرح، تماماً مثل الشعر، مكانٌ للسؤال لا للجواب.
من الجدير بالذكر أن خاكوب آمو مسرحيّ وشاعر من مواليد مدينة بلد الوليد الأندلسية. يعمل حالياً أستاذاً للّغة والأدب في جزر الكناري. وقبل أن يكرّس نفسه للتعليم والكتابة، كان معاوناً في برامج التطوير والمشاريع المتعلّقة بالثقافة والتكامل الاجتماعي في بلدان عديدة، مثل هايتي، وجمهورية الدومينيكان، وسلوفينيا، إضافة إلى فلسطين، التي تعاون فيها أيضاً مع "مسرح الرواة" المقدسي وأخرج له مونودراما "الأحداث الأليمة في حياة أبو حليمة"، من تمثيل إسماعيل الدباغ، عن قصة طه محمد علي ودراماتورجيا نجوان درويش، عام 2008.
* شاعر ومترجم سوري مقيم في إسبانيا