عفيفة لعيبي في "محطّات الغربة": استعادة خمسة عقود

23 نوفمبر 2021
"وقت الربيع"، زيت على قماش، 100 × 180 سم (1982)
+ الخط -

نشأَت عفيفة لعيبي (1953) في مدينة البصرة، جنوب العراق، وسْط عائلةٍ تنتمي إلى اليسار السياسي وكان لكلّ أفرادها اهتمامٌ بالفنون والآداب؛ بدءاً بالأب الذي كان يهوى الموسيقى، والأُمّ التي كانت تمارس النحت، وصولاً إلى إخوتها: ليلى التي كانت تكتب الشعر الشعبي وتُغنّي، وغازي الذي كان خطّاطاً، وعليّ الذي جمع بين الرسم والنحت والغناء والعزف على الكمان والعود، وفيصل وعبد الإله اللذين قاسماها شغفَها بالفنّ التشكيلي.

هذا الشغف سيقودها، في نهاية الستّينيات، إلى بغداد للدراسة في "معهد الفنون الجميلة"، ثمّ - بعد فترةٍ عملت خلالها رسّامةً في عددٍ من الصحف العراقية - إلى الاتحاد السوفييتي، عام 1974، لدراسة فنّ الجداريات في "أكاديمية سوريكوف للفنون الجميلة" بموسكو. وكانت تلك أُولى محطّات تجرُبةٍ طويلة من الاغتراب ستستمرُّ قرابةَ خمسين عاماً قضتها التشكيلية العراقية في أكثر من بلد: إيطاليا، واليمن حيث درّست في "معهد الفنون الجميلة" بعدَن، وأخيراً هولندا حيث تُقيم حالياً.

نساؤها متخفّفاتٍ من الزمن، كأنّهن منحوتات لا تتقدّم في العمر

في معرضها الذي يستمرُّ في "غاليري بيكاسو" بالقاهرة حتى الثلاثين من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، تستحضر لعيبي تلك المحطّات عبر لوحاتٍ تلتقي، بشكلٍ أو بآخر، في ثيمة الاغتراب. "محطّاتُ الغربة"، وهو عنوانُ المعرض الذي افتُتح في السابع من الشهر الجاري، يُحيل إلى ذلك الانتقال المستمرّ في الجغرافيا طيلةَ سبعةٍ وأربعين عاماً، وأيضاً إلى محطّات التجربة التشكيلية نفسِها؛ إذ يَجمع المعرض قرابة ثلاثين لوحةً جديدة وقديمةً تنتمي إلى مراحل زمنية مختلفة من عُمر تلك التجربة، بما شهدته مِن تغيُّرات على مستوى الأفكار والمواضيع وتطوُّر على مستوى الأسلوب.

عفيفة لعيبي - القسم الثقافي
(من المعرض)

على خلاف كثيرٍ من فنّاني بلدها، تنزعُ لعيبي إلى التشخيص في لوحاتها (يُشاركُها شقيقُها فيصل التوجُّه ذاته)، تبدو متأثّرةً في ذلك بفنّاني الواقعية الروسية ورسّامي عصر النهضة في أوروبا؛ مثل ليوناردو دا فينشي، وباولو أوتشيلو، وبييرو ديلا فرانشيسكا، وأيضاً بفنون الشرق القديم (السومري والفرعوني). لكنّه تشخيصٌ يضعُ العناصرَ المشخّصَةَ في اللوحةِ، من بشرٍ وحيوانات وأشياء، ضمن أجواءَ تمنحُها علامةً خصوصية: احتفالٌ لونيٌّ، مع ميلٍ إلى توظيف للأخضر والأصفر بتدرُّجاتهما، يُذكّر بالنزعة الوحشية، وتوظيفٌ للطبيعة بمستوَييها الرمزي والجمالي، وحضورٌ دائمٌ للمرأة (أو الجسد الأنثوي) التي، وإنْ كانت عاريةً في كثير من اللوحات، لا تُقاربها من زاوية إيروتيكية، بل بوصفها "عنصراً غنيّاً جدّاً وقادراً، عبر ما تمتلكه من جمال ورُقي ونقاء، على أن تكون أداة طيّعة لتوصيل الأفكار التي ليست أدبية أو سردية بالضرورة، بل هي أفكار مرتبطة بحاجتي في تشكيل وتكوين لوحتي"، كما تقول في حوارٍ سابق.

ترسمُ لعيبي نساءها متخفّفاتٍ من آثار الزمن كأنّهن منحوتات لا تشيخ، ثمّةَ طائرٌ أو طفلٌ يصرّ أحياناً على الظهور إلى جانبهنّ أو التعلُّق بصدورهن. لا تُحيل الأزياء وبقيّة العناصر التي تؤثّث اللوحةَ إلى البيئة المحلّية دائماً، لكنّنا لن نُخطئ تلكَ البيئةَ في لوحةٍ مثل "الأمّهات" (1984) التي تَظهرُ فيها ستُّ نساء وطفل. تُخبرنا الأزياءُ، وكذلك الحزنُ الذي في وجوه النسوة، بأنّهن لسن سوى عراقيات.

المساهمون