خلال زيارته العراق عام 1975، أجرت صحيفة "يورت" حواراً مع الكاتب التركي الراحل عزيز نيسين، تحدّث فيه عن قضايا أدبية وسياسية مختلفة، وقد أعاد نشره في كتابه "الدنيا قِدرٌ كبير وأنا مِغرفة"، بعد فقراتٍ عبّر فيها عن امتعاضه من وضع "المركز الثقافي التركي" في بغداد.
كان الظلام قد حلّ أثناء عودتنا من كركوك إلى بغداد، وكنتُ متعَباً للغاية، وعليَّ أن أذهب إلى المركز الثقافي التركي في بغداد، وإلى اتّحاد الأدباء التركمان. كنتُ وعدتُهم بالزيارة قبل سفري إلى كركوك بيوم. ذهبتُ أولّاً إلى المركز الثقافي التركي، وكان المشهد سيئاً للغاية. أقول للمسؤولين عن هذا المركز:
إمّا أن تُقيموا مركزاً فعّالاً يليق بالثقافة التركية أو أغلقوا هذا المركز على الفور إذا كنتم غير قادرين على جعله مركزاً مميّزاً، لكي لا تبدأ الدعاية السيّئة ضدّكم. حتى الآن لا توجد أيّ خطّة لإدارة هذا المركز. وقبل كل شيء، ليس واضحاً إلى أيّ جهة يتبع هذا المركز حتى الآن، ولا لأي وزارة، هل وزارة الخارجية أم الثقافة أم التعليم. ما هي الأعمال التي يقوم بها هذا المركز حتى الآن؟ لنقُل إنّ أوّل ما يقوم به هو نشر الثقافة التركية، حسناً، ولكن أين الكتب التركية التي تقدّمونها إلى الناس؟
أرسلتْ أنقرة إلى هذا المركز كلَّ الكتب التي لم تعد تُقرأ ولا تلفت انتباه أحد. والعاملون في المركز وضعوها في المكتبة ولا أحد يقرأها. ونشر الثقافة في الأساس ليس الهدف الوحيد من وجود مركز ثقافي. إنّ أوّل وظيفة للمركز الثقافي التركي في بغداد يجب أن تكون وحدة التركمان الثقافية، لليمين واليسار منهم بلا تفريق. ولكن من سيفعل هذا؟ هل الذين يُفرّقون في أنقرة بين السُّنّي والعلوي هُم الذين سيلعبون هذا الدور؟
على بعد بضعة كيلومترات من المركز الثقافي التركي في بغداد، يوجد اتّحاد الأدباء التركمان، لكنّهم لا يعرفون شيئاً عن بعضهم البعض. يجب أن تكون وظيفة هؤلاء هي الدعاية للثقافة التركية وليس الدعاية للقومية التركية.
اتّحاد أدباء التركمان
بعد زيارتي للمركز الثقافي التركي في بغداد، ذهبتُ إلى اتّحاد الكتاب التركمان، وكان مقرُّه في أحد أجمل أحياء بغداد. بناء من طابقين وله حديقة. حتى الكُتّاب الأتراك الذين تُرجمت أعمالهم إلى كلّ لغات العالم، ليس لديهم بناء كهذا، وحتى نقابة الكُتّاب الأتراك ليس لديها اليوم غرفة واحدة.
أردت أن ألتقي بأعضاء اتحاد الكُتّاب التركمان، وأرسلتُ لهم خبراً في اليوم السابق، وحضر منهم ستّة أو سبعة أعضاء فقط.
يُموَّل هذا الاتحاد من قبل العراق، بما يعادل 25 ألف ليرة تركية في العام. ويُصدر الاتّحاد مجلّة كلّ ثلاثة أشهر باسم "صوت الاتحاد"، لكنّها لا تُطبع بشكل منتظم.
وقد أجرى معي الشاعر والصحافي عبد اللطيف بندر أوغلو، رئيس قطاع الثقافة التركمانية لصحيفة "يورت" (وطن) التي يديرها، لقاءً. وكانت الأسئلة كالتالي:
■ إنّ عزيز نيسين، الذي عُرف في العالم ككاتب تركي ساخر، هو أول كاتب تركي يحصل على "جائزة لوتس"، فما قيمة هذه الجائزة المعنوية بالنسبة إليك؟
كما تعلمون، فإن اتحاد كُتّاب آسيا وأفريقيا هو الذي يُعطي "جائزة لوتس"، وشعوب آسيا وأفريقيا هُم الذين يحدّدون قيمة هذه الجائزة المعنوية. شعوب هاتين القارّتين قاوموا الإمبريالية طوال تاريخهم، ومنهم من يقاوم حتى الآن.
إنّ "جائزة لوتس" هي جائزة أدبية، نعم، ولكن معايير الجائزة ليس الأدب فقط. فالكاتب الذي يحصل عليها ليس كاتباً جيّداً فقط، لكنّه أعطى حياته أيضاً للعمل السياسي ضدّ الإمبريالية، وناضل كثيراً من أجل السلام وأخوة الشعوب.
يتجاهل أغلب الكتّاب مشاكل شعوبهم ويتحدّثون عن شعوب أُخرى
■ متى نُشرت أوّلُ قصّة لك، وعن أيّ شيء تتحدّث، وبمَ تأثّرتَ آنذاك؟
- أوّلُ قصّة نُشرت لي كانت في مجلة "ملييت" التي كانت تصدر في أنقرة، وكان ذلك ما بين عامَي 1941 و1943، ولم تكن قصّة ساخرة. كتبتُ تلك القصّة لكي أوضّح للناس، بشكل واقعي، الأوضاع الصعبة للمهمَّشين في الأناضول أثناء الحرب العالمية الثانية. وكنت متأثّراً بأوجاع المهمَّشين والمسحوقين.
■ كيف ترى التيارات الأدبية في المشهد التركي اليوم؟
- الأدب التركي منفتحٌ على كلّ الثقافات، ولذلك نجد تيارات مختلفة في المشهد التركي اليوم، لكنّ تيار الواقعية هو الأكثر تأثيراً في تركيا. كما بدأ منذ 15 عاماً تيار الواقعية الاشتراكية في تركيا أيضاً، وإلى جانب ذلك يوجد العديد من التيارات المختلفة.
■ من هم روّاد الشعر التركي الآن بعد ناظم حكمت؟
- لا أرى نفسي مؤهَّلاً للحديث عن الشعر والشعراء، لكنّني من الممكن أن أذكر رأيي هنا ككاتب يحبّ الشعر وبدأ حياته الأدبية بكتابة الشعر: لا يأتي روّاد للشعر إلى العالم بشكل سريع. كان ناظم رائداً، لأنّ الطريق الذي فتحه ناظم سار فيه شعراء كثيرون بأسلوبهم الخاص. ومحمد عاكف وتوفيق فكرت وغيرهم كانوا روّاداً أيضاً في أشعارهم. أمّا أورهان ولي فقد صار رائداً لتيار "غريب". وقد عرف المشهد الشعري التركي ظهور تيار شعري قوي عُرف بـ"الجديد الثاني"، ولا أتصوّر أنّ لهذا التيار رائداً واحداً فقط.
إنّني أؤمن بوجود شعراء كبار اليوم في تركيا، لكنّني لا أتصوّر وجود شاعر يُطلَق عليه رائد الآن. وأتمنّى أن تنظروا إلى هذه الإجابة باعتبارها إجابة قارئ.
■ هل لديك فكرة عن الأدب الأذربيجاني وأدب تركمان العراق؟
- أعرف جيّداً أدب أذربيجان السوفيتية، ولكن مع الأسف لم يُقدَّم هذا الأدب إلى القارئ التركي، لأنّ دًور النشر التركية تعمل داخل النظام الرأسمالي وهدفهم هو الربح قبل كل شيء، وهذا طبيعي وفقاً لظروف تركيا اليوم. فمن أجل هذه الدُّور يجب نشر الأدب الأذربيجاني الذي يبيع بأعداد كبيرة، مثلاً، طُبِع من أدب أذربيجان الإيراني كتابٌ للأطفال للكاتب صمد بهرنجي، وباع كثيراً حتى أنّه طُبع في عدّة طبعات مختلفة حتى الآن. إلّا أنّ دُور النشر التركية لم تكتشف كُتّاباً غيره حتى الآن. لكنّنا نحن الكتّاب الأتراك نعرف جيّداً أدب أذربيجان السوفيتية. نعرف مثلاً ميرزا إبراهيم ورسول رضا وميرزا أكبر صابر… وعرفت في بغداد الشاعر شهريار وملحمته الشهيرة "حيدر بابا".
أقول بحزن إنّنا لا نعرف أدب تركمان العراق، وحاولتُ التعرُّف على كُتّاب تركمان عندما جئتُ إلى العراق، ويجب أن أكرّر أنّ احتمال اهتمام دُور النشر بالكُتّاب والشعراء خارج تركيا ضعيف للغاية، حتى لو كان هؤلاء الكُتّاب والشعراء يكتبون بشكل جيّد وتتجاوز شهرتهم حدود بلادهم. بالكاد من الممكن إصدار بعض الكتب عن طريق العلاقات الشخصية، وهذا لا يفيد كثيراً.
■ قرأتم بعض الأعداد من صحيفة "يورت". هل لفت انتباهكم أي شيء؟
- إنّها صحيفة جيّدة من أجل التركمان في العراق، لكن أتصوّر أنّ بها أشياء ناقصة، وسوف تعرفون هذه الأشياء مع الوقت. تصدر الصحيفة بدعم من الدولة، وهذا النوع من الدعم يجعل العاملين فيها أكثر راحة من النواحي المادية. ولكن أتمنّى أن تكون هذه الصحيفة للشارع وأن تتحدّث عن مشاكل التركمان.
اهتمام دُور النشر بالكُتّاب والشعراء خارج تركيا ضعيف للغاية
■ كيف ترى دور الكُتّاب والشعراء في نضال الشعوب؟
- سأخبركم عن شيء يجعلني مهموماً دائماً: يوجد نوعان من الكُتّاب الذين يتحدّثون عن مشاكل الناس. أغلب الكُتّاب والشعراء يتجاهلون مشاكل شعوبهم ويتحدّثون عن شعوب أُخرى، وهذا الأمر يجعلهم في أمان. مثلاً، الكُتّاب الذين يشاهدون شعوبهم وهي تُسحق، لكنّهم يخافون من النظام ولا يكتبون عن شعوبهم شيئاً، لكنّهم من الممكن أن يطالبوا بالاستقلال والعدالة لفيتنام مثلاً. هذه بطولة رخيصة في رأيي. رأيتُ مثل هذا كثيراً في الاجتماعات الدولية التي شاركتُ فيها مع الكُتّاب، ورأيتُ عكس ذلك أيضًا. رأيتُ كُتّاباً لا يهتمون بالشعوب الأُخرى، ويهتمون فقط بمشاكل شعوبهم.
ويوجد أيضاً كُتّاب يهتمون بكلّ الشعوب، وإن كانوا قليلين للأسف. سأذكر لكم أمثلة من بلادي. في عام 1955 وفي أحداث 6 و7 أيلول/ سبتمبر، تحدّث كثير من الكتّاب الأتراك عمّا يتعرّض له الأتراك في قبرص، دون الحديث عمّا تعرّض له اليونانيون في تركيا. وهناك مثال آخر: إذا كنتُ أريد أن أفعل شيئاً يتعلق بتركمان العراق، فيجب أن أرى مشكلة أهالي شرق تركيا.
■ ما هو دور اتّحاد كُتّاب آسيا وأفريقيا في استقلال شعوب العالم؟
- كما تعلمون، فإنّ هذا الاتّحاد هو منظمة غير حكومية. وعندما نتّخذ القرارات في اجتماعات اتّحاد كتاب آسيا وأفريقيا فإنّنا نتّخذها بعيداً عن الحكومات، ولكن بالتأكيد توجد أشياء ناقصة في هذا الاتحاد. مثلاً، الأمين العامّ لاتحاد كتاب آسيا وأفريقيا هو وزير الثقافة في الحكومة المصرية.
برأيي، الدور المهم للاتّحاد سوف يأتي عندما يكون الكُتّاب الأعضاء مؤثّرين في الرأي العام في بلادهم ضدّ الإمبريالية والعنصرية وكلّ أشكال الاستعمار. وأن يكونوا مستقلّين ومع السلام. وإذا صار كذلك فسيكون للاتحاد دور قوي ومؤثّر في العالم.
* فصل من كتاب "الدنيا قِدرٌ كبيرٌ وأنا مِغرفة: رحلة مصر والعراق" الحائز "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" (2021 - 2020) في فرع "الريبورتاج الرحلي المترجم - الرحلة الصحافية"، بترجمة: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير