في مسيرة المفكّر العربي عزمي بشارة، برزت الهُوية، بوصفها "بنية متشكلة، ويعاد تشكيلها وترسيم حدودها ووظيفتها باستمرار"، في تنظيرات مبكّرة، لعلّ كتابَيْ "طروحات عن النهضة المعاقة" (2003)، وتالياً "في المسألة العربية: مقدّمة لبيان ديمقراطي عربي" (2007)، من أبرز تجلّياتها.
في محاضرته التي أُقيمت أمس الأربعاء في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالدوحة، ضمن "موسم الندوات" الأوّل الذي أطلقته وزارة الثقافة القطرية، جاء العنوان، "في مسألة الهُوية"، عريضاً، رغم أن المُحاضِر يعلم أن هذا المحيط الواسع من الأفكار تتناسل منه توظيفات مصطلح "الهُوية" إلى هُويات فردية وجماعية مركّبة تحتاج إلى جهود كبيرة لملاحقتها.
ولذلك، اكتست المحاضرة أهمّيتها ــ إضافةً إلى الردود على سيلٍ من أسئلة الحاضرين ــ في تقديم بشارة مقاربةً تحليلية لمسألة الهُوية التي يشوب بحثَها بعضُ الارتباك بسبب رواج المصطلح في الحياة اليومية والإعلام والأدب والعلوم الاجتماعية، إلى درجة يصعب معها تحديد هويّة لمصطلح الهُوية.
الهُوية العربية من أنجع المضادّات للطائفيات على أنواعها
لم يغفل بشارة، قبل البدء، أن موعد المحاضرة يوافق "يوم الأرض"، اليوم الذي أعلن فيه أبناء فلسطين المحتلة عام 1948 - في 30 آذار/ مارس 1976 الإضرابَ العام - بما هو مرتبطٌ حُكماً بالحديث عن رغبة فلسطينيّي الـ48 هنا التأكيد على هويتهم الجامعة بعد عزلهم عن بقية أبناء الشعب الفلسطيني.
ثلاثة منزلقات
يرى بشارة أن الخوض "العِلمي" في الأمر محفوفٌ بمنزلقات عديدة، ذكر ثلاثةً منها لأهمّيتها: الأول، هو توسيع نطاق مسألة الهُوية والإفراط في إدراج قضايا كثيرة تحت عنوانها، والتعتيم بذلك على مصادر اقتصادية واجتماعية وسياسية معقّدة للقضايا، لا تقود معالجتها ــ بالأدوات التي تُقارب بها مسألة الهُوية ــ إلّا إلى مزيدٍ من الغموض.
وضرب مثلاً على ذلك هشاشة الدولة وعدم تماسك المجتمعات الوطنية أمام التغييرات التي تحصل للأنظمة السياسية في المنطقة العربية، إذ يميل البعض إلى اعتبارها أزمة هوية وطنية للمجتمعات، أو أزمة هوية الدولة. وهو استخدامٌ ممكن، ولكنّه أيضاً، كما يلاحظ بشارة، تمويهٌ يعوّق فهْم القضية المركّبة المتعلّقة بتاريخ نشوء الدولة وترسيم حدودها الإقليمية، والتحديث من أعلى، وإخفاق النُّخَب الحاكمة في عملية دمج المجتمع اقتصادياً وحقوقياً وبناء الأمّة بوصفها أُمّة الدولة، وغيرها من القضايا.
وثاني المنزلقات هو اعتقاد البعض أنه، بما أن الهُويات كائنات تاريخية وليست طبيعية، أي بما أنها مصنوعة ومركّبة، فهي مجرّد أوهام لا تستحقّ كلّ هذا الاهتمام. بينما غالبية المؤسّسات والكيانات الاجتماعية المهمّة في حياتنا مصنوعة ومركّبة. وكَوْنُ الهُويات ناشئة لا يعني، في رأي المفكّر العربي، أنها نافلة وغير مهمّة، سواء تشكّلتْ خلال الصراع ضدّ المستعمر مثلاً، أو بفعل النخب السياسية والثقافية وبواسطة إبراز انتماءات معيّنة للناس في الخطاب السياسي وبرامج التدريس وبرامج الترفيه، والتشديد المبرمج على التميّز عن الجماعة الأشمل التي تتفرّع منها الهُوية المتميّزة، وعن جماعات تُعَدّ مختلفة، وأخرى تُعَدّ خصماً.
ثمة فرق بين سؤال الهُوية فلسفياً وفهْمنا له في الواقع
أمّا ثالثها، فهو الخلط بين مسألة الهُوية وما يُسمّى الشخصية الحضارية لشعبٍ أو أمّة أو حتّى قارّةٍ ما، كما يُدّعى عند الحديث عن شخصية حضارية أوروبية، أو يهودية - مسيحية، أو إسلامية، أو عربية - إسلامية، أو بوذية أو غيرها. وهنا يطرح بشارة أسئلةً استنكارية لا استفهامية: ماذا يمكن أن تعني الهُوية الأوروبية في قارّة شهدت حربَيْن عالميّتَيْن بين الأوروبيّين، وتشهد الآن حرباً ضارية (الحرب الروسية على أوكرانيا)؟ وماذا يمكن أن تعني الهُوية اليهودية - المسيحية بعد المحرَقة؟ ماذا تعني الهُوية الأوروبية المشتركة عدا إبرازها على نحو سالب أمامَ مَن ليسوا أوروبيين؟ هل ثمة هوية يهودية - مسيحية سوى في محاولات أوروبا تخطّي المحرقة والعداء للسامية ومحاولات "إسرائيل" الحالية الانتماء إلى ما يُسمّى "الغرب"، في مقابل الشرق؟
هوية واثقة، لا متعصّبة
قدّم بشارة أطروحة فحصت الفرق بين مصدر سؤال الهُوية فلسفياً، وبين فهْمنا لها في الواقع الاجتماعي، وهو الأقرب إلى الإشكاليات التي تثيرها تخصّصات مثل علم النفس الاجتماعي والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا الثقافيّة، وهي تخصّصات تتشابك حين يتعلّق الأمر بسؤال الهُوية.
ومن خلاصات المحاضَرة أن أصحاب الشخصية الحضارية، ذات المكوّنات الغنيّة المنفتحة على التطوّر والتغيير، والواثقة من نفسها بتأصلها في هوية الأفراد الجماعية، لا يفزعون من التفاعل مع الثقافات والحضارات الأخرى. وهذا يقف على النقيض من الشخصية الحضارية الفقيرة والهزيلة، التي قال المحاضِر إنه يصعب أن تضرب جذوراً في هوية الأفراد الجماعية من دون استخدامٍ متواصِل لنفي الآخر كوسيلة لترسيم حدود الهُوية.
بين الهوية الجامعة والإيديولوجيا
ولدى حديثه عن الهوية الجماعية العربية، قال بشارة إن العربيّ يمتلك هوية ذاتية عربية عبر اللغة والثقافة، وهي أساس انتمائه المبنيّ على تصوّرات تاريخية مشتركة، وحتى مصير مشترك والتأثر بكل ما يجري في البلدان العربية. واللغة الجامعة بين الفصحى والمحكية وآدابهما ليست أداة تواصل فحسب ــ يضيف بشارة ــ بل هي أيضاً من أهم مكوّنات الثقافة والشخصية والوجدان. وثمنُ إنكار هذه الهُوية هو تشويه ثقافي، فليست للعرب ثقافة بديلة؛ قد يجد الأفراد لأنفسهم بدائل، ولكنْ لا يوجد بديل جماعي من الثقافة العربية.
بيد أن المفكّر العربي يضع على المحكّ تطرُّفَيْن آخرين، عدا التطرّف المتمثّل بالإنكار والتنكّر للهوية العربية: يتمثّل الأوّل باعتبار العروبة عِرقاً متحدّراً من أصل مشترك، أو رابطة دم متخيّلة كالقبيلة؛ والثاني اعتبار العروبة إيديولوجيا شاملة وحزباً سياسياً. كلا التطرُّفين، وفق ما يرى، يخلق صراعاً حول الهُوية العربية. فالأوّل يُخرج الأقوام التي تعرّبت ثقافياً وحضارياً عبر التاريخ من إطار الهُوية العربية، أو يحاول أن يختلق قرابةً بالدم دون جدوى، كما يُنكر التفاعل والتدامج بين القبائل والإثنيات والثقافات، ذلك التفاعل عبر التاريخ المتمثّل بالحضارة العربية الإسلامية، الذي تشكلت منه الحواضر العربية وتشكّلنا منه نحن العرب المعاصرين.
أمّا الثاني (أي اعتبار العروبة إيديولوجيا سياسية شاملة)، فقال بشارة إنه يخطئ في قلب الهُوية إلى أيديولوجيا، والأمر الأهمّ أنه ينفّر كلَّ مَن بات ينفر من هذه الإيديولوجيا، ولا سيّما حين ارتبطت بأحزاب حاكمة في دول سلطوية.
وعليه، أكّد بشارة، بقوّة، على أن الهُوية العربية من أنجع المضادّات للطائفيات على أنواعها، لأنها تنافسها بشدّة على حلبة الهُوية والانتماء وليس على مستوى التنظير والنقاش العقلاني، وتملك المقوّمات لمنافستها. ومثلما أن الطائفية وإضعاف الهُوية العربية سياسياً شكّلا مدخلاً لتدخّل قوى خارجية في البلدان العربية، فإن الهُوية العربية تشكّل أحد الدفاعات الرئيسة ضدّ مثل هذا التدخل.
العروبة والمواطنة
نتذكر أطروحات سابقة لبشارة حول "دمقرطة الفكرة القومية"، حيث الفكرة القوميّة الديمقراطية أساسٌ لنهضة تنطلق من ثقة بالذات ووثوق من الهويّة الثقافيّة، وُثوقاً وليس تعصّباً.
وهذه المرّة، أضاء المفكّر العربي، في محاضرته، على عدم وجود تناقض بين العروبة والمواطنة، مثلما لا يوجد تناقض، بل تكامل بين المكوّن العربي والإسلامي في الحضارة العربية الإسلامية. فإذا كانت الهُوية العربية هي هوية الأكثرية في البلدان العربية، فهذا لا يمنع أن تجمع المواطنين العرب بغير العرب الهُويةُ الوطنية والمواطنة المتساوية في دولة، مع احترام هويات غير العرب القومية والثقافية.
الشخصية الحضارية الهزيلة تبني هويتها عبر نفي الآخر
سبقتنا أوروبا في إنشاء الدولة ذات السيادة، وكذلك بمصطلح المواطنة، وكلاهما ــ بحسب إجابة لبشارة على أحد السائلين ــ وصلتنا "جاهزة". ولهذا، فإن تنظيرات بلا حصر، وتجارب تاريخية على الأرض وافقتْ على أن المواطنة أساس الانتماء إلى الدولة، وهي تصنع المشتركات الثقافية التي تميّز مواطني دولة ما بالتدريج. وفي حالة ضعف المواطنة، قال إنه تجري محاولة افتعال الهُوية الوطنية، غالباً بالتنكّر للهوية العربية المشتركة مع بقيّة الدول العربية.
وسأل: ما المشترك الثقافي بين الموصل وبغداد، والذي يفوق المشترك بين حلب والموصل؟ وما المشترك بين حلب ودمشق أكثر من المشترك بين حلب والموصل؟ ويمكن مواصلة هذه المقارنات على طول الوطن العربي وعرضه. الكوفية الحمراء لا تميّز الأردنيين، ولا تميز السوداء لباس الفلسطينيين، هذه رموز سياسية، ملاحظاً أن المشترك الثقافي بين مناطق أردنية وفلسطينية أكثر من المشترك في ما بين جهات داخل الأردن أو داخل فلسطين.
قصارى القول في هذه النقطة، يلخّصه بشارة بأن الهُوية الوطنية في بلداننا ليست هوية ثقافية، بل تقوم على المواطنة. والمشتركات الأُخرى تنشأ بالتدريج نتيجة للعيش المشترك في دولة والشعور بالانتماء إليها، بدءاً من احترام رموزها، وحتى تشجيع فريق كرة القدم الوطني، وليس بالتميّز المفتعَل ونفي الآخرين.