بمنحها جائزة نوبل لهذا العام للروائي التنزاني ذي الأصول اليمنية، عبد الرزاق غورنه (1948)، لم تكتف الأكاديمية السويدية بالابتعاد عن المركزية الأوروبية، بل تجاوزت ذلك إلى منحها لواحد من أكثر الكتّاب انهماكاً بمقاومة النزعة الاستعمارية للعالم الجديد في كتاباته، بالإضافة إلى تقديمه مواضيع مثل المنفى والهويات المتصدّعة؛ كاتب تهيمن على مؤلّفاته أيضًا قضايا التهجير وكيف تتشكّل الهوية من خلال موروثات الاستعمار والرقّ.
وإذا كانت الأكاديمية السويدية المانحة للجائزة العريقة قد فاجأت جماهير القرّاء والمثقفين حول العالم باسم يرتبط بأوروبا من خلال اللجوء، فقد فاجأتهم أيضًا بتقديمها لشخصية لا تمتلك مهارة الترويج لنفسها، أو بعبارة أخرى لشخصية تنأى بنفسها عن الشهرة الجارفة، لا سيما في أوساط مثقّفي العالم. أمرٌ فاجأ الكاتب نفسه قبل الجميع، والذي مُنح الجائزة نظراً إلى سرده "المتعاطِف والذي يخلو من أيّة مساومة فيما يخصّ آثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات"، بحسب بيان الأكاديمية السويدية.
يبحث صاحب رواية "ذاكرة المغادَرة" (1987) في التناقض الناتج عن التراث الاستعماري الإشكالي والمعقّد. لقد تحدّث عن الصعوبة التي ينطوي عليها "الارتباط بهذا الإرث واحتضان بعض الجوانب دون أن تفقد نفسك، لأنه في أعماقه خطاب يقزم ثقافتك المستعمرة".
شخصياته تعاني صراعاً كبيراً ومستمرّاً بين حياة جديدة ووجود ماضٍ
وتستند جميع أعمال صاحب رواية "طريق الحاج" (1988) إلى التأثير القاسي الذي تحدثه الهجرة في سياق جغرافي واجتماعي جديد على هويّات شخصياته، وهي شخصيات بالمصادفة شاء لها صاحبها أن تحمل ذات التجربة وذات المصير اللذين عاناهما هو، كالنزوح من موطنه الأصلي زنجبار والهجرة إلى بريطانيا عندما كان عمره 17 عامًا. فالهوية في هذا السياق مسألة تغيير مستمرّ، وما تفعله الشخصيات الرئيسية في رواياته هو على وجه التحديد زعزعة الهويات الثابتة التي يواجهونها في البيئات التي يهاجرون إليها. تعمل شخصيات غورنه الخيالية باستمرار على بناء هوية جديدة لأنفسها، لتناسب بيئاتها الجديدة. إنها شخصيات تعاني صراعًا كبيرًا باستمرار، بين حياة جديدة ووجود ماضٍ.
في رواية "الإعجاب بالصمت" (1996)، عندما تأتي صديقة فتاة إنكليزية إلى والديها لتخبرهما بأن ابنتهما حامل بطفل من أب لاجئ، فإنهم يواجهون ذلك بالنظر إليها بكراهية لأن ابنتهم، ومن هذه اللحظة، ستضطرّ إلى العيش مع نوع من التلوّث لبقية حياتها. لن يعود بمقدورها أن تكون امرأة إنكليزية عادية مرة أخرى. من هذه النقطة ينظر غورنه في جميع رواياته إلى ثيمة الهجرة والنزوح، سواء من شرق أفريقيا إلى أوروبا أو إلى داخل أفريقيا.
وبحسب آراء ثقافية نقدية حول غورنة، "فإنه يتمّ تمثيل الهويات القومية والعرقية وعرضها على أنها نقية بلا شوائب (الشعوب)، باعتبار أنّ التعرّض للاختلاف (المهاجرين) يهدّدها بالتمييع ويهدّد نقاوتها باحتمالية التلوث الدائم. في حين يمثّل أبطال رواياته هذا التلوّث لهويات الآخرين من خلال اختلافهم".
يحلل كتاب "ذاكرة المغادَرة" (1987) قرار بطل الرواية مغادرة قريته الساحلية الأفريقية الصغيرة كلحظة صفرية حاسمة. في حين تصوّر رواية "طريق الحجّاج" (1988) كفاح طالب مسلم من تنزانيا ضدّ الثقافة العنصرية للبلدة الإنكليزية الصغيرة التي هاجر إليها. كما تحتفظ رواية "الفردوس" (1994) بأجواء أفريقية بدلاً من الانخراط في الأجواء الأوروبية الجديدة.
يقول صاحب "قلب الحصى" (2017) إنه لا يوثّق ببساطة تجربته كسيرة ذاتية، بل يحوّلها إلى إحدى قصص هذا العصر... إنه يُكثِّف حالة التذكّر، الذي هو الجزء الحميمي الخلفي من ذهن الكاتب، كما أن الغرابة تزيد أيضاً من الإحساس بالحياة التي تُركت وراءنا، وأناس تركناهم خلفنا بشكل عرضي ودون تفكير، ومكان وطريقة للضياع إلى الأبد.
يسود نفس المعنى أبطال رواياته الذين ينظرون إلى ماضيهم بمشاعر مختلطة من المرارة والذنب لما تركوه وراءهم. في كثير من الأحيان، يستلزم الانتقال إلى مكان مختلف بالنسبة لشخصياته محْوَ أيّ اتصال مع عائلاتهم. يتساءل أحد أبطال رواية "الفردوس" بحزن "إذا كان والداه لا يزالان يفكّران به، إذا كانا لا يزالان على قيد الحياة، وكان يعلم أنه لا يريد أن يعرف أجوبة ذلك''.
هذا ما تشتغل عليه رواياته، صراعات نفسية عميقة للاجئين تركوا خلفهم الكثير، ولم يستطيعوا أن يروا أمامهم إلّا ما تفكّ الأيام أسرار لحظته من تصادمات تخلفها حالة اصطدام عنيفة بين ثقافات مختلفة مركزها أوروبا وطرفها أفريقيا.