عبد الرحيم أبو حسين: مغامرة التأريخ التي واجهت السرديات الأسطورية

26 يونيو 2022
عبد الرحيم أبو حسين في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

الحديث عن التاريخ اللبناني هو جزء من الحديث عن سرديّات سلطوية مُتصارعة، هذه هي الفكرة السائدة والتي عزّزها مسارٌ من الحروب التي لم تكن لتقنع مُسعّريها، رغم الخسارات الفادحة، بإيجاد صيغة للخروج من تلك الوضعية. قد لا يقول هذا الكلام أيّ جديد أو خصوصية، فهو يحتمل التَّعميم على مناطق وتواريخ أُخرى بأحد وجوهه. فالوثيقة ومن ثمّ الرواية التاريخية التي تُبنَى عليها بوصفهما من المؤسِّسات الأوّلية للعمَلية التأريخية، سرعانَ ما تتخطّيان الوضعية الإجرائية - المؤرّخ هنا ليس عالِماً في مخبر - لتقتحما بعدها عالَم السياسة. لكنّ دورَ المؤرّخ يبرز لا في تفكيك كلّ تلك الانحيازات فحسب، بل أيضاً بعدم الوقوف عند حدود مُختبره، وأن يُدركَ غاية الإدراك أنّ وظيفته خارجَه حيثُ تجدُّ الروايات المدرَسية والسلطوية باحتلال الفضاء.

هذه هي الوظيفة التي محورَ الباحثُ الفلسطيني عبد الرحيم أبو حسين (1951 - 2022) الذي رحلَ عن عالمنا مساء الخميس الماضي دورَه حولها، وعدَّها نقطة انطلاق جادّة في استقراء التاريخ اللبناني الحديث والمعاصر. وأكثر ما تبدّى هذا في مساقين من اشتغالاته؛ الأكاديمية من جهة، حيثُ شغل أستاذيّة التاريخ العثماني في "الجامعة الأميركية في بيروت" منذ عام 1982. وكذلك في دراساته من جهة ثانية، حيثُ التفتَ إلى وثائق لطالما أُهمِلت على مستوى حركة التأريخ العربية. تجاوزَ أبو حسين الكثير من العوائق باعتماده على "الأرشيف العثماني" في فترة مبكّرة.

بل يمكنُ القول إنّ أسبقيّته تتأتّى من حيثُ تقديمه للمكتبة العربية في عقد التسعينيات عمله الموسوم بـ"الكنائس العثمانية في السجل الكنسي العثماني (1869 - 1922)" الصادر عام 1998، وفي العقد الأوّل من الألفية قدّم معلمتَه التي أضاءت تياراً ما كان ليتفتّح لولا كتابُه "لبنان والإمارة الدرزية في العهد العثماني: وثائق دفاتر المُهمّة (1546 - 1711)" الصادر عن دار "النهار" عام 2005. بهذا فإنّ إنتاجات أبو حسين قد سبقت بسنوات صدور موسوعة "البلاد العربية في الوثائق العثمانية" التي صدر المجلّد الأوّل منها عام 2010، وهي من إعداد وترجمة المؤرّخ العراقي فاضل بيات.

اشتغالاتُه حول التاريخ العثماني حقّقت أسبقية وجرأة

في مقاله على صفحات "العربي الجديد" الذي حمل عنوان "مصداقية الوثائق العثمانية في تأريخ البلاد العربية: حالة تونس نموذجاً" يُشير الباحث والمؤرخ محمد م. الأرناؤوط إلى إشكالية يجتمع فيها ما هو منهجي بما هو سياسي. حيثُ يُحتكَم في التأريخ العربي إلى الوثائق الأوروبيّة، وتُهمَل عشرات ملايين الوثائق العثمانية المرتبطة أيّما ارتباط بالأحوال الاجتماعية والسياسية للمنطقة العربية طيلة أربعة قرون وأكثر. ومن إشارة الأرناؤوط العامّة، يمكنُ لنا أن نستوضحَ أيّ جهد كان أبو حسين قد بذله في استجلاء تلك الوثائق وتقديمها للقارئ العربي. والحديث عن الجهد، هُنا، هو تمثيل حقيقي عن تلك الإشكالية التي أشار إليها الأرناؤوط، فالأكاديميات العربية طيلة القرن العشرين ظلّت متأثّرة بالمقرّرات الرسمية المُغلقَة التي ظلّت تتعامل مع التاريخ العثماني انطلاقاً من لحظة تفكّك الإمبراطورية العثمانية فقط، وهذا انعكسَ منهجيّاً إلى الإغراق أكثر بالاعتماد على الوثيقة الأوروبية، مع بعض الإضافات المُمكنة من سرديات وطنية ومحلّية.

هذه التوليفة التي تفتقر إلى التجانُس في جوهرها، وتعجّ بالكثير من المتناقضات صُدِّرت كخطاب سياسي من حركات وأيديولوجيات شتّى، هيمنت على الدول العربية الناشئة خلال القرن الماضي، وهذه الهيمنة هي ما رأى فيها المؤرّخ الراحل "صناعة أسطورة". والقضية لا تقتصر على مركزية نهوض "بطولات" من زمن تاريخي غابر تؤمّن لراهن الأمّة عناصرها المُتخيّلة الجامعة، كما نبّه إلى ذلك بنديكت أندرسون في كتابه "الجماعات المُتخيّلة: تأمّلات في أصل القومية وانتشارها" (صدر عربياً عام 2014 عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"). بل هي في السياق اللبناني تتركّب فيها النزعات المحلّوية والطائفية بما يُعرّي ذلك المُتخيّل عن أي دور يمكنُ له أن ينهضَ به، ويستحيل إلى مجرّد أهزوجة تقتحم مؤسّسات الدولة من أصغر المدارس المُعبّأة بتواريخ متناقضة ومتحاربة وصولاً إلى تحويل النظام برمّته إلى نظام مُحاصَصة يتعذّر معه الوصول إلى شرط تكوين الأمّة والقومية أصلاً، وهذا ما أنتج، ويُعيد إنتاج، سلسلة من الحروب الأهلية.

وإذا كان أبو حسين قد اعتمد في أعماله وظيفياً على "الأرشيف العثماني" مستثمراً في وثائقه رغم تلك الإشكاليات المنهجية والسياسية، وهذا ما تتوّج في عمله "لبنان والإمارة الدرزية"، بيد أنّ كتابَه الأخير "صناعة الأسطورة: حكاية التمرّد الطويل في جبل لبنان" (2019) تتكشّف فيه الكثير من الاعتبارات لأنّه خصّصه للحديث عن شخصية الأمير فخر الدين المعني الثاني (1572 - 1635). وتلقى سيرة المَعني إجماعاً من أقطاب أيديولوجيّة متنافرة، الأمر الذي يعني أنّ المسّ به قد يفتح جبهات لا واحدة. فهو عند القوميين العرب نهضوي أدّى قتله من قبل العثمانيين إلى قطعِ الطريق على النّهضة العربية، وهو نفسه مؤسِّس لاستقلالية لُبنانية باكرة عند المؤمنين بالخصوصيّة اللبنانية.

المُتخيَّل في سياق التاريخ اللبناني مزيج طائفي لا وطني

وفضلاً عمّا تعجّ به كتب التاريخ والأدب المدرسية اللبنانية فإنّ رمزيّة فخر الدين ظلّت محطّ استنهاض للشخصية والكيان اللبناني ابتداءً من أفكار ميشال شيحا والأب بطرس ضو، وليس انتهاءً بأشعار سعيد عقل العُصابية، وكلّ ما سبق يأتي في سياق إعادة بعثٍ لسرديّتي "فينيقيا" و"لبنان الملجأ" اللتين تعرَّض لهُما المؤرّخ كمال الصليبي (1929 - 2011) في كتابِه "بيتٌ بمنازل كثيرة". ويبدو أثر الصّليبي واضحاً في عمل أبو حسين الأخير، من حيث أنّ كليهما يرى الحرب الأهليّة اللّبنانية حرباً حول التَّاريخ وروايته، وليست على تقاسُم السلطة وحسب.

شكّلَت أعمال المؤرّخ الفلسطيني الراحل خرقاً في المنظومة المدرسية التي روّجت لها أنظمة استبدادية وجماعات أهليّة، وهو إذِ اتّخذ من الوطنية اللبنانية نموذجاً درسياً إلّا أنّه نظرَ إلى ما هو أبعد، كما ظلّت غايتُه منصبّة على النظرية دونَ أن يقف عند تمثيل واحدٍ لها، ومن هُنا التفتَ أيضاً إلى نقد هذا المخيال حتّى في بعض السرديات الفلسطينيّة، التي حوّلت حكايات القادة الإقطاعيين في القرن السابع عشر والثامن عشر إلى آباء مؤسّسين لوطنيّة متخيّلة، بطريقة سهلة جدّاً. وأهمية موقف أبو حسين من هذه التيارات وسردياتها لا في تسيُّدها وقابليّة تحوّلها إلى تسلّطية قامعة في أيّ وقت، بل لأنّها أيضاً قد أعفت نفسها بكسلٍ مُطلَق من عبء التفكير الجادّ بالتأريخ الوطني وقنعت بثنائية "البطل المُخلّص" و"المتآمرين الأشرار". وختاماً ينطبق على اشتغال أبو حسين وإن كانَ حقّا سيتمّ استيعابُه من قِبل منظوماتنا التعليمية والسياسية ما كتبه المؤرّخ التركي إلبر أورطايلي في كتابه "حقائق التاريخ الحديث" (تصدر ترجمته العربية قريباً بتوقيع أحمد زكريا): "التاريخ تدريبٌ لا نهاية له كالتدريب الرياضي أو الموسيقي".

المساهمون