ظننتُ الأطفال ينامون فقط
هذا النهر العظيم
الذي يُسَمّى حياة
هل يحتاج إلى ابتلاع كلّ هذه الأجساد
لكي يستمرّ بالتدفّق؟
هذا الموت الجبّار
من أين يستمدّ رغبته بنهش أجسادنا،
أمن آثار الجروح في أرواحنا؟
أم من الهزال في أقدامنا القصيرة
التي مهما ركضت
لن تذهب بنا بعيداً
عن أسنان هذه الوحوش؟
يبدو لي أحياناً
أن الأشرار لا يموتون
هل يخشى الموتُ أيضاً
القلوب الطّافحة
بكلّ هذه الكراهية؟
والأطفال؟
ظننتهم ينامون فقط
يشربون الحليب في الصباح
وينظّفون أسنانهم الصغيرة جيداً
ثم يكبرون
كلحنٍ عذب
بمنأى
عن نشاز العالم
منذ متى صار الأطفال يموتون
أسراباً كالعصافير؟
منذ متى صار قماش قليل كافياً
لصنع كفن؟
والكفن
هل تذكّروا أن يصنعوا له جيوباً
ليخبّئ فيها الطفل
لعبته؟
سيّان عندي أن أموت أو أعيش
إنما لا فكاك من اللعبة
ما دمنا هنا
وما دام العالم الذي ظننتُه انتهى داخلي
ألف مرّة
يبدو بكامل لياقته
وهو يزمجر بالبارود والغبار
في وجه جسد طريّ
وعيون خائفة
الطفل الذي أخرجوه من تحت الركام
من يخرج الركام الآن
من قلبه؟
حين تنجو من الحرب
كيف ستنجو بعدها
من الحياة؟
■ ■ ■
أخجل من المجاز في زمن الحرب
أمشي في الشارع
أقاسم مشرّداً على الرصيف أُغنيته
أشارعُ الأشباح في رأسي
وأخبر يومي لزهرة في الحديقة
تبكي تحت المطر
أخجل أن أموت من الوحدة
في زمن الحرب
حين يعود الموت من المجاز
إلى حقيقته الحارقة
لحم
ودم
وأحلام…
■ ■ ■
الحزن الصلب
أحياناً
يكون الحزن ناعماً
مثل رمشٍ عالقٍ في عينكَ
مثل خصلة شعر التفت بين أصابعك
حزن ناعم
كالحزن الذي يحمله الخريف
أو رؤية زهرة
تذوي
وأحياناً
يكون الحزن صلباً
مثل قطعة من الحديد
انغرزت في باطن قدمك
مثل مشرط يشقّ قلبك نصفين
بلا تخدير
أو إصبع يضغط حنجرتك بلا رحمة
حزن صلب
كالحزن الذي يخلفه
الخوف
اليُتم
الموت…
موت صديق
موت طفل
موت أم…
موت ضمير العالم.
■ ■ ■
أسطورة الخير في العالم
تقول الأسطورة:
"كلما آمنتَ بالشمس
شعرتَ ببردٍ أقلّ"
أنا أُشهر إيماني على الملأ
بكل شيء
ابتداءً بالذي خلقَ الشمس
وبهذا النجم الذي ندين له بالضوء والدفء
حتى أصغر نجمةٍ تضيء حلماً في قلب شاعر
وأنعم قوّة تحرّك موجةً ضئيلة
على سطح المحيط العظيم
أنا أؤمن بكلّ شيء
لكنَّ البرد
أقوى
في هذه الغابة الكبيرة
كلّما كشط عظمة من عظامنا
انطفأ أمل قليل
كان يقول:
(هناك مكانٌ للخير في هذا العالم).
■ ■ ■
تحت سماء كهذه السماء
هدوء
كأنّه لم يكن يوماً أي صوت
صدى خافت في الهواء
لنداء رقيق
ربّما لم يخرج من حنجرة أحد
وظلال على السياج
لأشياء كثيرة
أعتقد أنّها لم توجد أبداً
كلّ شيء ساكن
وحدها الستارة على الشباك
تتحرّك
مثل قصيدة ترتجف في رأس الشاعر
تنفتح مثل ذكرى
تنغلق مثل جرح
تقترب مثل يد
تبتعد مثل صوت خطوة
كل شيء من حولي يبدو غارقاً
في وداعة
لا تشبه هذا العالم…
كل شيء يبدو مرهفاً
مع أنَّ أنياب القسوة
عالقة في عنق الحياة…
كل شيء يبدو ساكناً
مع أن الليل مدجج بالقنابل
تحت سماء كهذه السماء…
والعصفور ما زال يغني هذا المساء
مع أن طفلاً في مكان قريب
نام وهو يحلم بقطعة سكر
وحين استيقظ
لم يجد في فمه
سوى طعم الرماد
كل شيء من حولي
غارق في وداعة
لا تشبه هذا العالم
مع أن طفلاً
تحت سماء كهذه السماء
نام وهو يحلم بقطعة سكر
ولم يستيقظ
أبداً.
■ ■ ■
العيد والحرب التي لا تتوقف
كلّ شيء معدّ للاحتفال
العيدُ كالموت
لا يُخلِف موعداً
ترنّ الأجراس في المدينة
وتضيء الأشجار في شبابيك البيوت
والهواءُ محمّلٌ بالنبيذ والخبز
لكن الحرب
لم تتوقف
يجد الحزنُ دوماً طريقه إليّ
في مواسم الفرح الجاهزة:
كلُّ المقهورين في الأرض
والجوعى
وسكان الشوارع
والأطفال الذين يحلمون بالحب واللعبة
متى يفرحون؟
يجد الحزن الآن طريقه إليّ
العيد عاد
ولا جرساً يرنُّ للسلام في الأرض
والحرب لا تتوقّف
أولئك الذين قُتِلوا في الحرب
من يقفل أبواب قبورهم
فلا يسمعون أغاني المحبة في الشوارع؟
أولئك الذين لم يموتوا في الحرب،
متى يسترجعون الحياة؟
الحزن كالعيد
لا يُخلف موعداً.
■ ■ ■
المأساة أوسع من وجعك الشخصي
في جسدكَ أرواح الضحايا
لدمِكَ نكهة الظلام
تبحثُ عن الفراغ
عن مكان لا يعود فيه التفكير
مؤلماً
لكن كل شيء الآن
ملحٌ على جرح
لا مواساة في الكلام
لا مواساة في الصمت
والأشياء التي تهمّ
لا مرثيات تحملها إلى النسيان
وشتاء وحيد
لن يكفي
لغسل الرأس من الصور
والأذن
من الصرخات المبتلة بالبارود
الهواء يقلّ يقلّ
ورئتك تضيق
والمصابيح في أول المساء
أشعلت فتيلها من لحمك
و"المطر والدموع"
استعارة
وجعها أقوى من ابتذالها
والمأساة الآن
أوسع من وجعك الشخصي
أيها الشاعر الذي كان يقول
"لو كان كل شيء على ما يرام
لما كنتُ شاعراً"
هذا الخراب يمتدُّ أمامك
كالسهول المحروقة
فلماذا لستَ قادراً اذاً
على الكتابة؟
الرّئة تضيق
والهواء يقلّ
والخريف عاد
محملاً هذه المرّة
بالرصاص والغبار
وها أنتَ تسقطُ
مجّدداً
كورقة.
* شاعرة لبنانية مقيمة في فرنسا