يريد القرّاء الأتراك، من الكُتّاب الأتراك الذين يزورون القاهرة أن يكتبوا لهم عن الجامع الأزهر والطلاب الأتراك هناك، فمن المستحيل أن تزور القاهرة دون أن تذهب إلى الأزهر. الجامع الأزهر الذي يقول عنه الجميع إنّه قلعة الرجعيّين. عرفتُ وأنا في القاهرة أنّنا لا نعرف شيئاً عن مصر، أو أنّ معلوماتنا خاطئة، إذا كنّا نفكّر حتى الآن أنّ الأزهر هو قلعة الرجعيّين، فإنّنا لا نعرف شيئاً عن الثورة المصرية. لا أقصد أن أقول: إنّ الأزهر تقدُّمي، هو جامعة مثل كلّ الجامعات في العالم، لكنّها جامعة عربية في القاهرة.
يوجد في الأزهر 60 طالباً تركيّاً، وأغلبهم جاؤوا من أرياف الأناضول، وأكثرهم من "جماعة النور" أو ما شابه. أراد هؤلاء الشباب أن يعودوا إلى بلادهم رجالَ دين، لكنّهم بعد أن يأتوا إلى القاهرة ويدرسوا في جامعة الأزهر تتغيّر أفكارهم بشكل كبير. كان أهالي هؤلاء الطلاب يحدّثون أبناءهم عن الأزهر ويتمنّون أن يُرسلوا أبناءهم للدراسة فيه باعتباره جامعة دينيّة، لكنّ الطلاب يدرسون في الأزهر كأيّ جامعة أخرى. يوجد في جامعة الأزهر كليّات للتخصّص في علوم الدين، ولكنْ توجد كليات أخرى مثل التي في كل الجامعات، وأغلب الأتراك يدرسون في الكليات الدينية، وبينهم من يدرس أيضاً الاقتصاد أو الأدب.
أسوأ جانب في هذا الأمر، أنّ الطلاب الأتراك يدرسون في الأزهر بشكل غير رسميّ، لأنّ الحكومة التركية لا تريد لشبابنا أن يدرسوا في الأزهر، وعندما يعودون إلى تركيا بعد ذلك، تُعرقل الحكومة عودتهم إلى بلادهم. في حين أنّ وجود هؤلاء الشباب طبيعيٌّ في القاهرة ولا مانع من ذلك.
تقدميون يظنون الأزهر لم يتغير ورجعيون يظنونه شيوعياً
في تركيا قِسمان لا يريدان لشبابنا أن يأتي للدراسة في الأزهر؛ الأول هم الذين يُسمّون أنفسهم تقدميّين ويظنّون أنّ الأزهر لم يتغير، وأن شبابنا سيصبحون رجعيّين إذا درسوا هناك، وهؤلاء لا يعرفون شيئاً لا عن الأزهر ولا مصر بشكل عام. القسم الثاني هم الرجعيّون في تركيا، الذين يظنّون أنّ الشباب الأتراك إذا ذهبوا للدراسة في الأزهر فإنّهم سيعودون شيوعيّين، لأن الأزهر تغيّر تماماً ولم يعد مثلما كان في الماضي. والقسمان بعيدان تماماً عن الحقيقة.
لا يُقبّلني ولا يسمح لأحد بأن يُقبّلني
سأحكي لكم نكتة أولاً: كان هناك رجلٌ غير موفق في واجباته الزوجية، وبدأت زوجته في خيانته مع أحد الشباب. ويوماً ما، عاد الرجل فجأة إلى بيته، وأمسك بالشاب مع زوجته وبدأ يصرخ في وجهه محاولاً ضربه. أوقع الشابّ الرجل على الأرض وبدأ في ضربه بالفعل، وعندما رأت المرأة هذا قالت:
- اضرب اضرب... إنه لا يُقَبّل ولا يسمح لأحد بالتقبيل.
لنأتِ الآن إلى حكومتنا، إذا أرادتِ الحكومة فسوف يذهب الشباب التركي للدراسة في أيّ جامعة يختارها، مثلما يحدث في كلّ العالم. مثلاً، يذهب طلّاب من آسيا وأفريقيا وأوروبا للدراسة في الجامعات السوفييتية. إلا أن حكومتنا لا توافق على ذلك. هل تسألون لماذا؟ لأنهم سيصبحون شيوعيين. هذه كذبة كبيرة. لندعِ الشباب يختار ما يريد. هناك مَن يذهب هرباً مِن تركيا للدراسة في الجامعات السوفييتية، وتركيا تخدع بعض هؤلاء الطلاب وتجعلهم يقولون في الصحف:
- عدتُ إلى تركيا بعد أن حاول الروس أن يجعلوني جاسوساً.
حسناً، نحن لا نرسل طلابنا إلى الاتحاد السوفييتي، ولكنْ لنتركِ الطلاب يذهبون في المنح الدراسية للدراسة في جامعة الأزهر. يوجد حوالي 1500 طالب أجنبي في الأزهر جاؤوا بمنح دراسية، ومن الممكن أن نرسل من تركيا حوالي مئتي طالب كلّ عام، لكنّ الحكومة لا توافق بدعوى أنّ البعض منهم سيصبحون شيوعيين، والبعض الآخر سيصبحون رجعيين. وكأننا تقدُّميّون أصلاً!
حسناً، لن يذهب طلابنا إلى الاتحاد السوفييتي أو مصر، ولكن عليكم أنتم أن تُعلّموا هؤلاء الطلاب، وألا يُعَرْقَلَ التحاق الطلاب بالجامعة. حكومتنا مثل الرجل الذي في النكتة، لا تُقبّل ولا تسمح لأحد بالتقبيل. سيذهب الطلاب الأغنياء إلى جامعات في أوروبا وأميركا، ولكنْ ماذا سيحدث لبقية الطلاب، هل سيجدون عملاً بهذه الطريقة؟
حِيلة شرعيّة
سمع ثلاثة طلاب أتراك من الذين يدرسون في الأزهر عن وجودي بالقاهرة، وجاؤوا لزيارتي في الفندق. أحدهم كان يدرس الاقتصاد، والثاني علوم الدين، والثالث يدرس الأدب. كانوا شباباً أذكياء ومحبّين للوطن… أرادوا أن تعترف تركيا بالشهادة التي سيحصلون عليها من جامعة الأزهر. قالوا لي:
- اكتب من فضلك عن هذا الموضوع بعد عودتك إلى تركيا.
- إذا كتبتُ عن موضوع الأزهر، فحتى لو كانت الحكومة ستقبل، فإنها سترفض، فقط لمجرّد أنني أنا الذي كتبتُ عن هذا الموضوع. وسأكون قد تسببتُ في ضرر لكم بدلاً من المعروف.
لديّ اقتراح بشأن هذا الموضوع. أن تطلب الحكومة التركية تقريراً حول الأمر من السفارة التركية بالقاهرة. وإذا لم يكن هذا الأمر كافيا، فمن المُمكن أن تُرسل الحكومة هيئة مكوّنة من نوّاب في أحزاب مختلفة إلى مصر للتعرّف إلى جامعة الأزهر. وسوف يفهمون أنّ جامعة الأزهر لا تجعل الطلاب شيوعيين أو رجعيين.
لو كتبت عن موضوع رفض الحكومة لشهادة الأزهر، سأتسبب لكم بضرر لا معروف
هناك شيء آخر. الحكومة التركية لا تضغط على الطلاب الذين ذهبوا للدراسة في الأزهر بنفس القدر الذي تفعله مع الطلاب الذين ذهبوا للدراسة في جامعات الاتحاد السوفييتي، وهذا يبدو واضحاً من عدد الطلاب الذين يدرسون في الخارج. فهناك 60 طالباً تركياً يدرسون في الأزهر، مقابل طالب تركي واحد يدرس في الاتحاد السوفييتي. ويقوم الطلاب الأتراك الذين يدرسون في الأزهر بعمل حِيلة شرعيّة، حيث يذهبون إلى جامعة أخرى في بلد عربي، ولأنّهم درسوا الشريعة في الأزهر، يصبح بإمكانهم أن يُكملوا دراساتهم في جامعة أخرى لمدّة سنة واحدة، ويحصلوا على شهادة من الجامعة الجديدة ليُعتَرَف بها في تركيا. وفي رأيي، هذا ليس خطأ هؤلاء الطلاب، لكنّه خطأ الذين دفعوهم للقيام بهذه الحيلة.
أودّ أن أقول: إنّ شبابنا القادم من ريف الأناضول للدراسة في القاهرة، حتى إذا لم يقوموا بعمل شيء في الجامعة فستكون مجرد حياتهم في مدينة ضخمة كالقاهرة وتعاملهم بلغة أخرى، سبباً في اكتساب الخبرات وأن تُفتح عيونهم على العالم… لنتركِ الشباب يذهبوا لدراسة العلوم الشرعية في الأزهر بدلاً من أن يظلّوا بين أيادي الرجعيين في تركيا.
الجانب الآخر
حدّثتكم بفخر عن الأزهر فيما سبق، وسَيَفْهم الذين يزورون الجامع الأزهر أن كلامي ليس صحيحاً، لأن جامعة الأزهر تختلف عن جامع الأزهر. وهناك طلاب أتراك يدرسون في جامع الأزهر أيضاً. سأحكي لكم عنهم.
إنني في الجامع الأزهر الآن، ولا يوجد أي شيء مختلف هنا. دخلنا من الباب الكبير وعلى اليسار عدد كبير من الرجال، الذين يرتدون الجلاليب وفي أقدامهم قماش أبيض فوق الأحذية حتى لا تُوسّخ أحذيتهم الجامع. نعم، هذا هو السبب الواضح لذلك، لكن الحقيقة غير ذلك تماماً، لأن الشوارع إذا كانت متسخة فالجامع متسخ من الداخل أيضاً. أتصوّر أن هذا القماش الأبيض الذي يوضع فوق الحذاء، هو فقط من أجل جلب النقود من السائحين.
يحاول الباعة خارج الجامع أن يبيعوا هذا القماش ويعرضوه على السائحين. ذهبتُ إلى أحدهم فوضع القماش الأبيض فوق حذائي وربطه، ثم جاء شخص آخر يرتدي جلباباً وقال بالإنكليزية:
- هل تريد دليلاً؟
- نعم.
كانت ساحة الجامع متّسخة، وعلى اليمين قُسِّمَ المكان بالأخشاب إلى أروقة، وعلى أحد هذه الأروقة كُتب "رواق الأتراك". كنت أنظر من بين الأخشاب إلى داخل هذا القسم. يا لطيف! كيف يعيشون هنا وكيف يدرسون؟ فتحتُ الباب ودخلتُ، هل تعرفون السجون في الأرياف عندنا؟ هذا المكان يشبهه تماماً. توجد أسرّة وصناديق، ورأيت بعد دخولي ثلاثة طلاب يسندون ظهورهم إلى الحائط ويحضّرون الشاي على موقد صغير. أحدهم كان في الخامسة عشرة، والطالبان الآخران يبدو أحدهما في الخامسة والعشرين والآخر في الخامسة والأربعين. قاموا بعد أن رأوني وقالوا:
- تفضّل.
- هل أنتم طلاب أتراك؟
- نعم.
سألت الشاب الملتحي عن عمره فقال:
- 45.
جامعة الأزهر تغيرت بعد الثورة المصرية وصارت جامعة معاصرة
عندما لاحظ دهشتي، أخبرني بأنّ أعمار الطلاب هنا متفاوتة. قال إنه جاء من جنوبيّ تركيا، فبعد أن أنهى المرحلة الثانوية التحق بالخدمة العسكرية ثم جاء إلى هنا. كان هناك شاب مُلتحٍ آخر لم يقم بتأدية الخدمة العسكرية بعد، والشاب الصغير كان يتحدث التركية من حلقه مثل العرب. جاء به والده وهو في الثامنة من عمره، وقد أنهى والده الدراسة في جامعة الأزهر ثم عاد إلى تركيا، ولم يتلقّ منه ابنه خبراً منذ وقت طويل. كان هناك ثلاثة طلاب يدرسون هنا أيضاً لكنني لم أتمكن من رؤيتهم.
يُعطي النظام المصري لكلّ طالب من هؤلاء 12 جنيهاً مصريّاً في الشهر. والجنيه المصري يعادل دولارين، وبالعملة التركية، الجنيه الواحد حوالي عشرين ليرة تركية، وهذا يعني أنهم يحصلون تقريباً على 240 ليرة تركية. أما الطلاب صغار السن فيحصلون على عشر جنيهات مصرية في الشهر. سألتهم:
- هل تكفيكم هذه النقود من أجل المعيشة؟
- نعم.
- هل تأتيكم الصحف التركية، وهل تقرأونها؟
- لا، إنهم لا يرسلونها. وليس لدينا النقود الكافية لعمل اشتراك للحصول على الصحف.
إذا جاء الأتراك لكي يشاهدوا جامعة الأزهر ثم جاؤوا إلى هنا فسوف يفكّرون بشكل خاطئ، لأن جامعة الأزهر تغيرت بعد الثورة المصرية وصارت جامعة معاصرة. وفيها 1500 طالب أجنبي يحصلون على منحة دراسية ويقيمون في أماكن عصرية، ويمكنهم الحصول على الطعام بأسعار زهيدة.
أصرَّ الطلاب الذين يدرسون في الجامع الأزهر على أن نجلس معهم لنشرب الشاي.
* فصل من كتاب "الدنيا قِدرٌ كبيرٌ وأنا مِغرفة: رحلة مصر والعراق" الحاصل على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة (2021 - 2020) في فرع "الريبورتاج الرحلي المترجم - الرحلة الصحافية" بترجمة: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير، ويصدر في الأشهر القادمة.