تختص زاوية "صدر قديماً" بتقديم قراءات في كتب عربية مرّت عقود على إصدارها، وما زالت تنبض براهنية تستدعي قراءتها واستعادة أصحابها. هنا قراءة في كتاب "هذا النحو" الذي كان في أصله محاضرة ألقاها اللغوي والأديب المصري في الثامن من إبريل/ نيسان 1943.
آمن أمين الخولي (1895 - 1966) بضرورة تجديد الفكر الإسلامي من خلال مُساءلة سِجلَّيه الرئيسَين: الفقه والنحو. واستدلّ على واجب التحديث هذا من غير فصلٍ بينهما بما طَرأ على الحياة المعاصرة من تغيّرات، وما أثارته من تحدّياتٍ. فلتطوير الخطاب الديني وجَعْله متوافقاً مع الحداثة، لا بدّ من تجديد علم النّحو بما هو الأداة التي تُعين على فهم النصوص الدينية ومصادرها، والتي نُعبّر بواسطتها عن الطروحات الجديدة للفكر الديني في خطاب أكثر تلاؤماً مع العقل وأشدّ تركّزاً على تحوّلات التاريخ.
ولبيان خَطر هذه القضيّة، خصّص الخولي تأليفاً سمّاه: "هذا النحو"، وفي هذا العنوان تورية لطيفة، فالمقصود بـ"هذا النحو" ليس علم التراكيب المعروف والوظائف الإعرابية للكلمات في الجمل والنصوص، وإنما نهجُ التحديث الذي ينبغي أن يتّبعه العالم العربي - الإسلامي، الواقع جلّه آنذاك تحت نير الاستعمار، من أجل الوصول وفي الآن ذاته إلى إعادة بناء الفقه، وتيسير قواعد التواصل اللغوي.
في العنوان تورية لنهج التحديث الذي يجب أن يُتَّبع
هذا، وقد كان كتابُ "هذا النحو"، في الأصل، محاضرة شفويّة أُلقيت بعد ظهر الخميس الثّامن من شهر إبريل/ نيسان من سنة 1943 في أحد النوادي الثقافية بالقاهرة. وقد قسّمها الخولي إلى عشرة محاور، أطلق عليها اسم "معالم البحث"، وهي أبحاثٌ وتساؤلات تتّصل بطبيعة النواميس الاجتماعية والعلاقات القائمة بين النحو والفقه، مما يشرّع لتجديدهما معاً دفعة واحدة، مع التنصيص أكثر على المُشكلات اللغوية، وتقييم محاولات المفكّرين المحدثين لحلّها من أجل تيسير هذَين العِلميْن، وجعلهما ألصق بالعصر الراهن، لا مجرّد مَقولات وبناءاتٍ ذهنيّة، لا صلة لها بالواقع.
وقد أولى اهتماماً خاصّاً لمُعضلة الازدواج اللغوي diglossie، فالتواصل اليومي أو "المَعيشة" تَجري بلغة (اللهجات المحلّية الإقليمية)، والتحليل الوصفي يتمّ بلغة مبايِنَة، (الفصحى العالِمة)، مما يخلق ثنائيّة ترهق مستخدمي اللغة ومتابعيها، هذا فضلاً عن الاضطراب النظري الذي يَسِم بعض قواعد هذه الأخيرة، بسبب من عدم الاطّراد، واختلاف التعليلات، بحسب الحالات، أكانت قياسية أم شاذّة.
ولعلّ هذا الربط الذي ربما طُرحَ لأوّل مرّة بهذه الصراحة، بين تجديد الفقه، باعتباره المنظومة المعياريّة التي تَحكم حياة المسلمين، وبين تجديد لغة الخطاب والتواصل، يُوحي بسيادة مَبدأ نسبيّة القيم جميعها، حتى تلك التي قُدّمت في ثوب مقدّس. ولذلك، برهن على أنّ إصلاح أحدهما لا يتمّ إلا بإصلاح الثاني، وأنّ هذا الإصلاح ليس ترَفاً فكريّاً وإنّما "ضرورة" يُمليها التاريخ، ولا سيما أنّ المرجعيات التقليدية للفقه قد تقلّصت، وحلّت مَحلّها القوانين الوضعية والتنظيمات الأساسية.
ويركّز الكتاب، من جهة ثانية، على قضايا تعليم النحو العربي في المدارس والجامعات، حَسب المنهج التقليدي الذي يُكثر من ذِكر القواعد النظرية، دون طائلٍ ومن إثبات الاستثناءات والشذوذ إلى درجة تقوّض صفاءَ القاعدة واطّرادها، وهو ما يشوّش تلقّيها في ذِهن المتعلّمين من الناشئة أو من غير الناطقين بالضاد، ويُعقّد طُرق استيعابهم لها، لأنّهم لن يمسكوا، خلال التلقّي، بخيطٍ واحد.
وقد ضرب صاحبُ "مِن هَدي القرآن" على ذلك مثلاً حَرف "لَم" الذي من المفترض أن يكون حرفَ جزمٍ في كلّ الحالات التي يدخل فيها على الفعل المضارع، فإذا به يَرفع ويَنصب! مستشهداً على ذلك باستعمالاتٍ للإمام الشافعي في كتاب: "الرسالة"، وهي من موارد الكلام العربي الفَصيح.
تعامل بمبدأ النسبية مع قيم قُدّمت في ثوب مقدّس
لكن، يحقّ لنا أن نتساءل اليوم ماذا بقي من هذا النقد الذي وجّهه الخولي إلى فنَّي الثقافة العَربية الأساسَين؟ لا شكّ أنَّ الزمن تغيّر منذ أربعينيات القرن الماضي، وأنّ توصيفَ النحو العربي قد ابتَعد عن المناهج الكلاسيكية التي تمزج بين المنطق وعلوم اللغة، كما بات يتحاشى إسقاط بعض المقولات الدينية والاعتبارات الصورية في تحليل ظواهر اللغة والكلام، فضلاً عن تفادي هذه التحليلات للخلافيات والجَدل الذي لا ينتهي؛ بسبب من تبايُن مُصادرات كلّ مَذهب ومناهجه في الشّرح والتعليل. كما لم يعد التحليل اللغوي يعتمد مقولات النحويّين القدامى بعد أن تغيّرت سجلات اللغة، وبتنا إزاء العربية المعاصرة التي تكاد تختلف كليّاً عن الفصحى الكلاسيكية، وهو ما يقتضي تغيّر نحوها وتحوّل طرق اشتغالها. كما صار توصيف أنظمة اللغة مستنداً، في الأغلب، إلى مَكاسب الألسنية الحديثة التي قامت مفاهيمُها على درس أنظمة اللغات البشرية قاطبة.
ومن جهة أخرى، تطوّرت الضاد، وأظهر المتكلّمون بها كفاءات عالية في التعبير عن كلّ مظاهر الجدّة في عالمنا السريع، وآخر مغامراتها التوليديّة كانت تلك التي خاضتها إبّان انتشار وباء كورونا، حيث صوّرت لغتُنا كلّ مفاعيل الوباء وآثاره والحلول المنصوح بها، في دقة لا مُتناهية. إذ تؤكد المواقع الإخباريّة، مثلاً، اتّساع دوائر دلالتها في كلّ الميادين المعاصرة، بدءاً من الصحة إلى الاقتصاد، مروراً بالموضَة والريادة في الأعمال.
رأيت اسم أمين الخولي منذ أكثر من عشرين سنة مَضت، محقّقاً لكتاب "المغني" للقاضي المعتزلي عبد الجبار الأسد آبادي (969 - 1025م)، فأخذتني حينَها ما يُشبه "الهيبة"؛ من اسم المُحقّق الذي اقتَحم إخراج هذا النص الصعب بإشراف وتقديم طه حسين. وها أنا أعود إليه لأستعرض مجهوداته في تحديث علوم البلاغة والتفسير، مدركاً أنّ الرجل قد غُمط حقّه ولم يدرَس بالقدر الكافي في دراسات المستعربين.
تلقّى الخولي تعليمه، مثل سائر مُجايليه، في جامع الأزهر، ثم أكمله بإتقان اللغات الأجنبية كالألمانية والإيطاليّة، وشاء له الحظّ أن يتزوّج من طالبته عائشة عبد الرحمن، الشهيرة بـ"بنت الشاطئ" وترافقا معاً في رحلة حياة عامرة، كَتبت هي، بعد وفاته، بعض صفحاتها في سيرتها الذاتية مُطلِقة على زوجها اسم "شيخنا الأستاذ".
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس