صدر قديماً: "في عالَم الفلسفة" لأحمد فؤاد الأهواني

03 اغسطس 2023
أحمد فؤاد الأهواني في بورتريه لأنس عوض- العربي الجديد
+ الخط -

يبدو لنا اسم أحمد فؤاد الأهواني، اليوم، بعيداً وغير مألوف لدى أغلبنا، حالُه في ذلك حال العديد من أبناء جيله من الذين اشتغلوا في الفلسفة والفكر وعلم النفس، في مصر وغيرها من البلدان العربية، بين ثلاثينيات وستّينيات القرن الماضي. وكأنّ الفترة السابقة على الستّينيات تُمثِّل عالَماً آخر بالنسبة إلينا، على الرغم من أنها كانت، في كثير من الأحوال، ولا سيما في الفلسفة وعِلم النفس، مرحلةً تأسيسية للاشتغالات التي ستليها، باعتبارها وضعت أُسساً جديدة لفهمنا للفلسفة وتاريخها، ولولادة علم النفس عربياً.

مثل عدد من معاصريه، جمَع الأهواني (1908 ــ 1970) بين هذَين الحقلين في اشتغالاته، تاركاً فيهما العديد من الأعمال المرجعية التي درستها أجيالٌ من طلبة كلّية الآداب في "جامعة القاهرة"، التي تدرّج بالتدريس فيها قبل أن يرأس قسم الفلسفة فيها عام 1965. على أنّ إضافته تلك باتت اليوم شبه منسيّة، لولا استعادةُ عدد من أعماله في بعض المشاريع، مثل "مؤسّسة هنداوي" التي أعادت، منذ العام الماضي، إصدار ستّة من أعماله في طبعات إلكترونية توفّرها مجّاناً على موقعها.

 

يقع ضحية لتقادُم بعض الأفكار رغم فهمه العميق لجوهر التاريخ

من هذه الأعمال كتابُه "في عالَم الفلسفة"، الذي ظهر للمرّة الأولى عام 1948، والذي يُمكن من خلاله تلخيص فَهْم المفكّر الراحل للفلسفة وتاريخها، بأبعاده: الإغريقية والعربية والحديثة - الأوروبية. هذه الأبعاد الثلاثة التي يتوقّف عندها في كتابه، المُقسَّم إلى ثلاثة أجزاء رئيسية يتوقّف في كلّ واحدٍ منها عند عدد من التجارب والمفاهيم والحركات الفلسفية في كلّ واحدٍ من هذه العوالم.

ولا يبتغي المؤلِّف رسم صورة شاملة عن الفلسفة في هذه المراحل والثقافات، لكنّه يعمل وفق منهج أقرب إلى تأريخ الأفكار، باعتبار "أن كلّ جيل من الأجيال كانت تسودُه فكرة تشغل الأذهان وتدفع الناس إلى البحث فيها، والاشتراك في جدلٍ صاخب حولها". هكذا، ينتقل بنا من أسطورة أورفيوس حول أصل الأشياء والخَلق، إلى التعريف بـ"الأكاديميا، أو مدرسة أفلاطون"، ومن نظرية المعرفة عند إخوان الصفا وابن سينا والفارابي وغيرهم، إلى الاختلاف حول مبدأ السببية بين الغزّالي وابن رشد، الذي يرى أنه "قضية خطيرة حقّاً كان لها أعظم الأثر في حياة المُسلمين، ومستقبل حضارتهم؛ إذ عليها تتوقّف الأُسُس التي تقوم عليها العلوم المختلفة".

غلاف الكتاب

ولا يخفى على قارئ الكتاب إعجاب الأهواني بفلسفة ديفيد هيوم، حيث يترجم في الجزء الأخير من عمله النصّ الذي كتبه المفكّر الاسكتلندي حول سيرته الشخصية، قبل أن يُعرّج على "مذهب السببيّة عند ديفيد هيوم"، وهو المذهب الذي كان قد أحال إليه في نهاية تعليقه على الجدل بين الغزّالي وابن رشد.

ويُبدي صاحب كتاب "المدارس الفلسفية" قدرةً كبيرة في تلخيص عقود، بل قرون من الفكر، مُبسّطاً العديد من الأفكار المعقّدة، وشارحاً توجُّهات وتيّارات أساسية في تاريخ الفلسفة، في أسلوب يصفه بالقول إنه "يبثُّ الحياة في الحركات العقلية، فلا تُصبح جامدةً منعزلةً تقرؤها على صفحات الكتب فلا ترى فيها إلّا ألفاظاً مرصوصةً تخلو من الروح لأنها تخلو من الحياة". وهو في هذا لا يكتفي بتحويل التاريخ إلى مادّة لطيفة للقراءة، بل لا يتردّد في انتقاده وإبداء آراء فيه، وتفضيل مدارس على أُخرى، كما يفعل حين يُدافع في حديثه عن "تقدير الجمال"، إذ يُقدّم الفهم اليوناني للجمال (بوصفه تناسُباً وكمالاً)، على الفهم الحديث (الذي أنّ أساسه حرّية الفنان).

كما أنّ قدرته هذه تبدو في تجنّبه مطبّاً شائعاً في قراءتنا للتاريخ، حيث نُعيد صياغته انطلاقاً من قيَمنا وفهمنا وأدوات عالمنا الحاضر؛ وهو ما يختصره بالقول: "لم يُميِّز الأقدمون بين العِلم والفلسفة، فمن الحقّ علينا أن نجمع بينهما حين نقصُّ تاريخهم".

لكن على الرغم من كلّ هذا الحذر وكلّ هذه الدقّة، إلّا أنّ أحمد فؤاد الأهواني كان هو نفسه "ضحيّةً"، إذا صحّ التعبير، لتمرحُل التاريخ ولتقلُّب أفكاره وتقادُم بعضها، بل وانهيار أجيالٍ من الأسماء التي اعتقدت ببعض هذه الأفكار وناقشتها. ونقصد هنا تخصيصه لفصل، في الجزء الأخير من كتابه، درس فيه "ما بعد النفس، أو الميتابسيشيك"، الذي يعرّفه بأنه "عِلمٌ جديد لم يكتب عنه أحدٌ فيما أعرف باللغة العربية". غير أن القسم الأوسع من المفكّرين والعلماء يُجمعون، منذ عقود، على أن لا شي علمياً أو منطقياً في هذا النقاش الذي شهدته أوروبا بين نهايات القرن التاسع عشر وأربعينيات القرن العشرين، والذي سعى إلى تفسير ظواهر مثل التخاطر وتجسُّد الأفكار وغيرها. الأكيد أن "زلّة" الأهواني هذه لم تكن السبب في دخوله حيّز النسيان لدى القسم الأوسع من القرّاء والناشرين العرب.

المساهمون