حقيقة لم أفكّر بالحضرمي ابن خلدون، صاحب "المقدمة" الشهيرة، كمهندس معماري وعالم اجتماع إنساني ومخطط مدن سبق عصره وما سيليه من عصور تعتبر الآن عصور علم وصناعة إلا حين وقع نظري على دراسة للمهندس سابا جورج شبر (1923- 1968) ضمّها كتابٌ صدر تحت عنوان "النمو الحاضر للمدينة العربية" (مطبعة الكويت الحكومية، 1968). في هذه الدراسة اللماحة، وهي مكتوبة بالإنكليزية، نكتشف وجهاً آخر من وجوه هذا العبقري ابن خلدون.
نحن نعرفه مؤرخاً وعالم اجتماع وصاحب نظرية في نشوء الحضارات وأسباب انحطاطها، ولكننا لم نعرفه كمبتدع لعلم تخطيط المدن وهندستها، وصاحب نظرات نافذة لم يدركها إلا قلّة من المعاصرين في زمننا الراهن.
اليوم، كما قال شبر في دراسته هذه، يعتمد تخطيط المدن والمناطق الحضرية اعتماداً كبيراً على فروع علمية عديدة، اقتصاد واجتماع وجغرافيا وقانون وتمويل وهندسة وإحصاء وإدارة ومعمار.. إلخ. وحتى اليوم ما زالت القلة تمتلك فهماً واسعاً لما يعنيه بالنسبة للوعي تخطيط المدن، فهو تخطيط شامل يتطلّب معطياتٍ واسعة وتحليلاتٍ إحصائية وتقاناتٍ ومسوحاتٍ ومهاراتٍ في صناعة الخرائط.
بفضل كتاب شبر نكتشف وجهاً جديداً من عبقرية ابن خلدون
ومن المؤسف، بقدر ما يعني الأمر الوطن العربي، أن تطبيق المبادئ السليمة في تخطيط المدن ظل مفقوداً طوال الستين أو السبعين سنة الماضية باستثناء حالات قليلة ومعزولة. المدن العربية - والحديث يجري في ستينيات القرن الماضي - نمت بسرعة وتحوّلت إلى تجمعات مدنية غير عملية، وغالبا تتناقض مع مفاهيم التمدن الراسخة والشهيرة. ولكن المدن العربية ليست الوحيدة في تمثيل هذا النوع المأساوي من البناء، فحتى في البلدان الغربية لم تبدأ ممارسة مبادئ تخطيط المدن السليمة إلا منذ وقت قريب جداً.
في ضوء هذا، أي في ضوء تجاهل الإنسان وحاجاته بعامة في التخطيط للمدينة، وبخاصة تجاهل العرب الماثل في بعض مدنهم خلال العقود الماضية، تظهر أفكار وتحليلات العربي عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون الحضرمي (1332-1405)، ليس بكونها بالغة الأهمية وجوهرية فقط، بل بكون أهميتها بالإضافة إلى ذلك ذات معنى كبير بحيث يمكن اعتبارها إحساساً شاملاً بتخطيط المدينة بكل جوانبها بمعناها المعاصر.
لا شك أنه يمكن اعتبار فكر ابن خلدون فكراً ينتمي إلى فئة الفكر العبقري الذي يتخطى زمنه ويصلح لكل الأزمان. إنه يمتلك فهماً استثنائياً للعناصر الفاعلة في عصره، ولا نجد في العصور القديمة ربما سوى فيلسوفين مثل أرسطو وأفلاطون عالجا بشكل أو بآخر جوانب بناء المدن. بينما اهتم الآخرون بنواحي المدن العسكرية أو لأغراض استراتيجية. وحده ابن خلدون أدرك العناصر المتنوعة التي هي شرط بناء المدينة، وعبّر عنها بحذق ومهارة ووضوح وقوة. كانت المدينة بالنسبة له الناس والمباني والحكم والهندسة والثقافة والمعمار والإدارة والاقتصاد. ولم تكن كياناً عضوياً جامداً، كما يقول شبر، ذا بعد أو بعدين، بل كانت كياناً عضوياً متعدد الأبعاد مضافة إليه عناصر الزمن والفلسفة.
ابن خلدون المعروف حتى اليوم بقدراته الفكرية الشاملة خارج الوطن العربي أكثر مما هو معروف لدى العرب، اعتمد على ثروة معرفية هائلة وأبحاث واسعة، وعلى ملحوظات حساسة مباشرة استمدها من رحلاته من أقصى الوطن العربي إلى أدناه.
والحقيقة أن قلّة من الناس تعرّفت على أفكار ابن خلدون المتعلقة بتخطيط المدينة ومعمارها وهندستها، لأن هذا الحقل أصبح حقلا معقداً يمتزج فيه العلم بالفن، إضافة إلى كونه علم اجتماع إنساني كما ينظر إليه في الأزمنة الحديثة. وأفكار مثل أفكار ابن خلدون حول هذه الموضوعات ذات نغمة استثنائية، ومعاصرة بشكل بالغ الوضوح تدفع المرء إلى التساؤل: لمَ لم يلفت انتباه المخططين ذوي الاتجاه العلمي الاجتماعي، ولماذا لم يلتفت المؤرخون إلى أفكاره التي تمتلك نغمة أكثر الأفكار المعاصرة نفوذاً مثلما التفتوا إلى أفكاره عن الخيمياء والفلك؟
أدرك ابن خلدون العناصر المتنوعة التي هي شرط بناء المدينة
بعد أكثر من ستة قرون مرت على كتابته لمقدمته الفذة، لا يزال من الممكن حسبان الكثير من محتويات مقدمته بسهولة بالغة من منتجات عصرنا أيضاً.
يقول ابن خلدون على سبيل المثال: "إن البناء واختطاط المنازل إنما هو من منازع الحضارة التي يدعو إليها الترف والدعة كما قدمنا، وذلك متأخر عن البداوة ومنازعها. وأيضاً فالمدن والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير، وهي موضوعة للعموم لا الخصوص، فهي تحتاج إلى اجتماع الأيدي وكثرة التعاون".
وحين ينظر المرء إلى ما حدث خلال الخمس عشرة سنة الماضية من نمو للمراكز المدنية العربية، يدرك كم تحمل كلمات ابن خلدون من معنى ورؤيا ثاقبة. وهناك ملحوظة مهمة ودالة يوردها ابن خلدون: "اعلم أن المدن قرارٌ تتخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من الترف ودواعيه، فتؤثر الدعة والسكون، وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار. ولما كان ذلك القرار والأولى، وجب أن يراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها".
وحين يدرك المرء أن هذه الملحوظة تتضمّن، ربما لأول مرة في الأدب المدني، المفهوم المعاصر للتقسيم المناطقي، تصيبه الدهشة وهو يرى الكثير من المدن العربية التي بنيت خلال العقد الماضي أو نحو ذلك، تناقض هذا المفهوم القائل "بإبعاد الأشياء الضارة عن المدن". لم يظهر التقسيم المناطقي في أوروبا إلا خلال الثمانين عاماً الماضية، أما لدينا، فبعد 600 عام لا تزال المعرفة المدنية الضرورية في كيفية التخطيط مفقودة، والرأي العام بلا قوة في هذه المسائل، ولا قدرة منظمة على إبعاد المضار عن المناطق السكنية إلا في ما ندر من مدن.
ويفصّل شبر فكرة التقسيم المناطقي الفذة بوصفها أداة إكراه من أجل المصلحة العامة، تبعد استخدامات الأرض الضارة بالصحة، وتضمن رفاه وأمان سكان المدينة، ويشير إلى أن ابن خلدون لم يكتف بالتوقف عند هذا الحد، أي المعايير التي تطبقها حالياً الهيئات البلدية، بل يمضي إلى تقديم ما هو مفيد وملائم في المدن مثل الحدائق التي لم تعرف إلا حديثاً، وجلب العناصر الاجتماعية التي لم يبدأ المعماريون المعاصرون بأخذها في الحسبان إلا بعد تجارب عاشوها في الهند وفلسطين، مما يشير ربما إلى تعرف هؤلاء على أفكار ابن خلدون.
وفي سياق حماية البيئة، يمكن أن نجد مقولات لابن خلدون الآن في تقارير خبراء البيئة والصحة، وخاصة إشاراته إلى تلوث الأجواء بالدخان وضباب الانبعاثات من المصانع وتأثير الظواهر الجوية على اختيار أمكنة إقامة المدن وما إلى ذلك.
الخلاصة التي يمكن أن تدهش القارئ هي أن كل المقتطفات التي يأخذها شبر من مقدمة ابن خلدون، سواء ما تعلق منها بتنظيم الأسواق، وربط المعمار بالحاجات الإنسانية أو غير ذلك، هي أن ما جاء في هذه المقتطفات الموزعة بين الصفحات كتبت قبل اكتشاف أميركا، وقبل الثورات الفرنسية والأميركية والروسية والحروب الأهلية، وسبقت كتابات مفكري العصور الحديثة من أمثال فولتير ولوك وجيفرسون وماركس، أي سبقت ما يشار إليها باسم المرحلة العلمية أو الثورة الصناعية.
وبعد الدهشة يأتي الإدراك أن ها هنا كاتبا ومفكرا ذا عقل رفيع المستوى من الدرجة الأولى، مع أن هذه المقتطفات في الحقيقة لم تكن، بتعبير سابا شبر، إلا لمحات ومروراً عابراً لم تغص عميقاً في القدرة الفكرية لهذا الحضرمي الاستثنائي بكل المقاييس.