صدر قديماً: "البُرْنُس في باريس" لمحمد المِقداد الوَرْتَتانيّ

23 اغسطس 2023
مئذنة جامع الزيتونة الرئيسية عبر أحد الأقواس الداخلية
+ الخط -

تختصّ زاوية "صدر قديماً" بتقديم قراءات في كتب عربية مرّت عقود على إصدارها، وما زالت تنبض براهنية تستدعي قراءتها واستعادة أصحابها. هنا قراءة في كتاب "البرنُس في باريس" للعالِم التونسي محمد المقداد الورتتاني (1875 - 1950)، عن تجربته عام 1913.


في صائفة سنة 1913، أبحرت سفينة فرنسيّة من "ميناء حلق الوادي" التونسي في اتّجاه مرسيليا، وعلى مَتنها عالِمٌ زيتونيّ مُعَمَّم، هو محمد المقداد الوَرْتَتَاني (1875 - 1950)، مُرتدياً بُرنُساً رقيقاً، علامةَ انتماء وشارةَ اعتزاز. سيقضي الورتتاني زُهاء الشّهرين متنقّلاً بين مُدن فرنسا وسويسرا بغاية استكشاف أفانين الحضارة الأوروبيّة، التي سبق له أن خبِر آثارها في تونس، بعد أن انتصب بها الاستعمار منذ سنة 1881 باسم "الحِماية الفرنسيّة".

سافر الرجل إذاً، وفي ذهنه نظرةٌ متناقضة: لا يدري هل يعتبر فرنسا مثالاً يستقي منها مبادئ السّياسة ونتائج العُلوم، وسائر عناصر التقدُّم المادّية والثقافيّة، أم يراها مجرَّد قوّة استعماريّة غاشمة، فينتقد مفارقاتِها ويُقاومها؟ بهذه النظرة الضدّيّة سيقارب الرجل ما سيشاهده من تجليّات الحداثة السياسية والاقتصادية التي ستعترضه أثناء تجواله.

وبهذه المناسبة، اقتنى الرجل، وهو مُوظّف ميسور الحال، آلةَ تصوير محمولة، لعلّها من أوائل الآلات الخاصّة، التقط بواسطتها كثيراً من الصّور النادرة لمختلف مراحل سَفَره، مما أضفى عليه طابعاً توثيقيّاً نفيساً، تضافر فيه صفاء العبارة مع صدقيّة الرّصد الفوتوغرافيّ. وقد ضمّن الورتتاني رحلته هذه كمّاً كبيراً من التفاصيل والإحصاءات والتواريخ والأرقام، حيث اجتهد في تجميع ما تقع عليه اليد من معلومات حول تاريخ تونس وفرنسا وحاضرهما، مع مقارنة بعضها ببعضٍ، فجاء نصّه بمثابة موسوعة تاريخيّة وجغرافيّة الغاية منها التثقيف والإعلام، وليس مجرد التسلية والإيناس. وممّا ساعده في ذلك "كنّش السفر"، الذي سجّل فيه كلّ شاردة وواردة ممّا رآه أو مارسه. وبعد الإياب إلى بلده، أعاد صياغة ملاحظاته المُدوّنة عفويّاً على عين المكان، مُضيفاً إليها العديد من ذكرياته وتقييماته، فاستوى هذا النصّ الهجين في مفترق أكثر من جنس أدبيّ: الرحلة والسيرة والتحليل.

درسٌ مُقارن عن واقع وتاريخ كلّ من تونس وفرنسا

وهكذا، فالجديد مع هذا المتن هو تيسُّر الوصول إلى فرنسا في مدّة قصيرة بحراً، ثمّ تطوُّر وسائل النقل والمواصلات بين مُدنِها وقُراها، وهو ما نسّبَ صورتها كنموذج بعيد المنال، فزارها الورتتاني بوصفه من أوائل السُّيَّاح العرب الذين انتقلوا اليها بغرض السياحة أساساً، لكن مع فكرة المغايرة الثقافيّة، ففرنسا هي الآخر المباين الذي بات يجسّد في الآن ذاته مثالَ تقدّم وقوّة احتلالٍ، بعد أن كان "بلادَ الكُفر"، وليس من المشروع السّفر إليه.

ولذلك، ضمّن الورتتاني وصفه لمَعالم فرنسا وسويسرا نظراتٍ فقهيّة، فكان يُردف الحديث عن مؤسّسة ما، مثل مجلس الشيوخ أو البرلمان والبنوك والمحاكم والمصانع وغيرها، بإيراد آراء الفقهاء المُسلمين حولها من أجل التّشريع لاقتباسِها وتطبيقها على الواقع التونسي، ومن أجل التذكير بأنّ العرب المُسلمين سبق وأن توصّلوا إلى ابتكارها قبل الغرب. وهو ما يُفضي به أحياناً إلى استطرادات غير متينة، كالتباهي بمحاولات العبّاس بن فرناس في الطيّران واعتباره أبَ الطيران الحديث.

الصورة
البرنس في باريس - القسم الثقافي

من جهة الأسلوب التعبيري، تختلف هذه الرحلة عن تلك التي صاغها رفاعة الطهطاوي، أو ابن أبي الضياف وأحمد فارس الشدياق وغيرهم بفارق جوهريّ: صفاء اللغة، وقدرتها على استحضار المراجع المُشاهَدة بكثير من الدقّة، بعد التخفّف من الألفاظ المتقادمة والمهجورة والغريبة. فبفضل تجديد موارد الضادّ وأبنيتها الفكريّة وقدراتها الوصفيّة صارت أقدر على الإحالة على المؤسسات الغربيّة، وانبثقت من أحشائها مفرداتٌ تقنيّة أقرب إلى المعاصرة والوضوح.

من جهة ثانية، اتّبع الورتتاني المنهج المُقارن إذ كان يذكر مظاهر التمدّن الفرنسيّ، كالبرلمان ومجلس الشيوخ والمستشفيات والمعامل... ويتبع ذلك باستطراد تاريخيّ مطوّل حول ما يقابله في الحضارة العربيّة - الإسلاميّة. والهدف من هذه المقارنات التأكيد على أنّ العرب المسلمين سبقوا إلى ذلك الإنجاز. وعليه، فلا ضير من اقتباسه من الفرنسيّين، لأنه مجرّد استعادة لما كان لدينا، وفي ذات الآن لا داعيَ لتبجّح الفرنسيين به واعتبار أنفسهم أوّل من ابتكَرَه.

عدّ اقتباس المنجزات الغربية استعادة لما هو إسلامي أصلاً

ومع ذلك، بقي أسلوب هذه الرحلة انبهاريّاً إزاء التقدّم الفرنسي، رغم أنّه عُدّل نسبيّاً بسبب التحوّلات السياسيّة التي طرأت على ضفّتَيْ المتوسط ومنها حضور الاستعمار في شمال أفريقيا، كما لم تكن هذه القِيم الحداثيّة كالعدل والعمران، بالمعنى الخلدوني الذي كان يستند إليه، غريبةً عن متخيَّله وخطابه، فقد رأى فيها تجسيداً لقيم الإسلام. ولذلك، دعا من طرف خفيّ إلى اقتباس هذه المبادئ الإيجابيّة وتبنّيها.

كما تحمل هذه الرحلة آثار ولع عربيّ قديم هو المزج بين الشّعر والنّثر. فكان صاحب "النّفحة النّديّة في الرّحلة الأحمديّة"، يصف المشهد نثريّاً، ثم يعقبه بقصيدة قد تكون إمّا من إنتاجه الذاتي أو من إنشاء غيره، يُثبتها حليةً وشاهداً. 

كما استحضر الورتتاني طيّ الرحلة العديد من النوادر والطرائف المُضحكة، التي شهدها أثناء تنقّلاته، سارداً إيّاها بكثير من التلقائيّة، ممّا يجعل مطالعة هذه السِّفر مُمتعةً لكَشْفها عقليّة ذلك الزمن، وطُرُق تقييم الأشياء وفهم الظواهر الطبيعية والعمرانيّة وصِيغ التحاوُر بين العرب والفرنسيين.

الصورة
الورتتاني - القسم الثقافي
محمد المقداد الورتتاني

وعليه، يشكّل هذا المتن مُدوَّنة نفيسة، لأنه ينطوي على مئات المُولَّدات المعجميّة التي استحدثها الورتتاني مع سابقيه ومعاصريه، من أجل وصف الحضارة الأوروبيّة، فقد غاصوا جميعاً في رصيد الفصحى، واستمدّوا منها مصطلحاتٍ دقيقة لتُحيل على مراجع لا وجود لها في العالَم العربيّ الإسلامي وقتها. ولذلك، يعدّ هذا المتن ونظائرُه طوراً رئيساً من أطوار تحوّلات الضاد، ولعلّ الزّملاء القائمين على "معجم الدوحة التاريخي"، أن يضمّوه إلى سلسلة الموارد التي ظهرت فيها لأول مرّة مفردات الحضارة إبّان مُغامرة العربية المُعاصرة في تسمية العالَم الحديث.

كما يُمكن لهذا الكتاب وأمثاله أن يكون تاريخاً استعرابيّاً لفرنسا، يرسم عادات هذا البلد وأنظمته السياسيّة والثقافيّة بمنظور عربيّ - إسلامي، حيث مثّلت التوصيفات والتفاصيل العديدة الواردة فيه أساساً لأثنولوجيا عربية مُستقاة من المجتمعات الغربيّة، في تنوُّع مُدنها وأريافها وعادات أهاليها حيث تضمَّن نقلاً دقيقاً لكلّ شفراتهم الرمزيّة والسياسيّة. فلو جمعنا سائر التحليلات التي وردت في الرحلات المدوّنة آنذاك، وهي التي اشتغلت عليها الباحثة التونسيّة أنس دبّاش في أطروحاتها "أوروبّا كما رآها المسافرون التونسيّون في القرنين التاسع عشر والعشرين" (2012)، لتَحصّلنا على مشهد أنثروبولوجي مُتكاملٍ، لا يقلّ دقةً وصدقاً عما أنجزه عُلماء أوروبا عن العرب ومجتمعاتهم.

مائة سنة وعشر بالتمام تفصلنا عن كتابة هذا النصّ، تتالت خلالها التحوّلات العميقة، لكن نكتفي بواحدة دالّة: كان الورتتاني يتهادى في شوارع باريس بِجُبّته وبُرنسه معتمراً عمامته الزيتونيّة القشيبة، يُستقبَل في مؤسّسات فرنسا الرسميّة بإجلال. وصارت اليوم أيّة علامة متّصلة بالإسلام محلّ انتقاد ومصدر رُهابٍ. فما هي الدواعي التي تضافرت على هذا الانغلاق؟


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون