منذ طفولته في منطقة البقاع بلبنان، ظلّ شوقي شمعون يطارد أحلامه وراء جبال وسهول وصحراء لا حدود لها في لوحته، لكنّه في السنتَين الأخيرتَين، باتت السماء التي راقبها من سطح بيته فضاءه المفتوح على اشتغالات جديدة يُقدّمها في معرضه الجديد الذي افتُتح منتصف الشهر الجاري في "غاليري مارك هاشم" ببيروت ويتواصل حتى الأوّل من الشهر المقبل.
مرجعية جديدة استمدّ منها الفنان التشكيلي اللبناني (1942) نداءات وصلوات تؤدّي إلى ذلك المدى البعيد والمطلَق، ونجوماً يعدّها لتأخذ مكانَها دوائر ونقاط وخطوط تتكرّر على السطح ضمن تجريدة هندسي لطالما شكّل معادلاً موضوعياً لتصوّراته عن الطبيعة في معارضه السابقة.
"عندما تُزهر السماء" عنوان المعرض الذي يضمّ أعمالاً نفّذها بالأكريليك في مشهد تصبح فيه الأرض مجرّد نقطة صغيرة يُنظَر إليها من علٍ؛ فالكواكب والأجرام السماوية تحتّل الحيّز الأكبر في كلّ عمل، ولا مناص من التحديق في إشعاعاتها الحمراء والصفراء والبيضاء بشكل أساسي على خلفية سوداء أو زرقاء.
يبني شمعون تكويناته باعتماد وحدات صغيرة تتجاور ضمن إيقاع منضبط ومدروس لتشكّل الشموس والكواكب والأقمار التي تدور في مسارات محدّدة لا خروج أو انزياح عنها، متناغمة في إيقاعها وحركتها، لتمثّل نظام الكون الذي يخضع الجميع إليه، ويعيشون داخل قوانينه ومسلّماته.
يبدو البشر في اللوحة كتفاصيل صغيرة في رحلة طويلة وممتدّة
وفي الوقت نفسه، تعكس صفحة السماء ذلك السلام الداخلي والتصالُح مع الذات الذي ينشده الفنان من خلال بحثه البصري في المنظر الطبيعي منذ أكثر من خمسين عاماً، حيث لا يعتقد بوجود جدران تحدّ تواصل البشر مع أمّهم الطبيعة أو في ما بينهم، لكنَّ سلامه هذه المرّة يتّخذ مساراً عمودياً من أعلى إلى أسفل وبالعكس، وليس في بعده الأفقي المعتاد.
يبقى البشر الذين كان يرسمهم شمعون في لوحاته السابقة في موقعهم أسفل اللوحة، وهم متناهون في صغرهم كالعادة، ويسيرون في خطّ حياتهم المرسوم لهم أو هُم في موعد مع حدث معيَّن أو ينتظرون مصيراً ما، لكنهم يبدون في هذه الأعمال أكثر هامشيةً في حضورهم، كتفصيل صغير في رحلة طويلة وممتدّة.
في بعض اللوحات، تظهر دائرة مرسومة بشكل حلزوني سوداء اللون في محيط من البياض تارةً، وملوَّنةً تارة أُخرى، تكون الدائرة مركزاً لها، بوصفها تعبيراً مختزلاً عن الدوران أو الحركة الدائمة المنتظمة للمجرّات في فضائها السديمي، وهي تماثل أيضاً نظرية الانفجار العظيم، حيث كانت الجسيمات الأوّلية داخل الكون في أحجام صغيرة جدّاً تدور حول مركز واحد قبل أن تنفجر في مسار حلزوني يعيد إليه شمعون الحياة إلى أصلها، وإلى بداية الزمن الذي يفقد معناه كلّما استمر الكون بالانكماش.
نقف هنا عند تلك الفكرة المجرّدة التي استوحى منها الفنان رؤيته في هذا المعرض، فالكون بدأ من نقطة واحد مضيئة قبل أن تنقسم إلى نقاط لا حصر لها، وفي انشطارها - كما يفترض العلماء - تُزهر السماء في ثمان وعشرين لوحةً.