سهيل القشّ... عن الكيان اللبناني وتشظّياته

14 سبتمبر 2023
سهيل القشّ
+ الخط -

على الرغم من أنّ كتاب الباحث اللبناني وأستاذ الفلسفة السياسية سهيل القشّ، "المرآة المتكسِّرة: تشظّي الكيان اللبناني" (أُنجز بمنحة بحثيّة من "معهد الدوحة للدراسات"، قبل أن يصدر عن دار "رياض الريّس" نهاية العام الماضي)، هو في جوهره عن تاريخ لبنان السياسي وعن تشكّله ككيان، وقبل ذلك عن لبنان الرمز والمعنى، إلّا أنّ الحوار الذي نظّمته "حلقة عابرون"، بداية الأسبوع الجاري وبُثّ عبر منصّة "زووم"، لم يقف عند حدود الراهن، أو المقصد المباشر من العنوان، بل تعمّق في تراث فلسفي وسياسي أبعد من ذلك بكثير.

تضمّنت الحواريّة، التي أدارتها الباحثة سهير بن سالم، مُداخلات من كُتّاب وباحِثين تناول كلُّ منهم فصلاً من فصول الكِتاب وطرح أسئلةً حوله، ثمّ تُرك المجال للقشّ كي يُجيب عنها. المُداخلة الأُولى كانت لعبد الكريم نوّار الذي تناول "السردية اللبنانوية"، لافتاً إلى تعريف القشّ حول "اللبنانوية" بوصفها نزعة فكرية أيديولوجية تُدافِع عن قومية لبنانية مَبنيّة على الإيمان بوجود أمّة مُكتملة الأوصاف والمقوّمات، هي: الأرض، والجماعة البشرية التي تسكن هذه الأرض، واللغة والثقافة والتاريخ المشترك، بالإضافة إلى إرادة العيش المشترك. وتساءل المتحدّث: هل أسهم اهتمام البابوية بالكنائس المارونية في تحفيز هذا الخطاب اللبنانوي؟ وما الدور الذي لعبته فرنسا لاحقاً في هذا السياق منذ القرن التاسع عشر؟

وهنا يُجيب القشّ، موضّحاً أنّه ينبغي التمييز بين اللبنانية (الوطنية العادية) و"اللبنانوية" بما في هذه الأخيرة من خصوصية وشُعور وهمي بالتفوّق والبطولة، حيث يَعزل هذا الخطابُ نفسَه من خلالها عن محيطه العربي، بحُكم أنّ شعار "الأمّة العربية الواحدة" لم يعُد يعني هذه التيارات. هنا أيضاً، لا يمكن الاقتصار على العلاقة بين الشعوب العربية، بل يدخُل الغرب على الخطّ؛ فالغرب عزّز حالة الافتراق بين هذه البلدان بعدّة سُبل كان أخطرُها الاستشراق، و"الاهتمام" بالأقلّيات في العالَم العربي، وإنْ تَميّز عن هذا الخطّ الاستشراقُ البريطاني الذي سعى إلى السيطرة على السُّلطة المركزية في إسطنبول.

اللبنانوية أيديولوجيا ضيّقة رعاها الاستشراق الفرنسي

أمّا الاستشراق الفرنسي، حسب الباحث، فقد عمل على ضرْب المَركز من خلال الأطراف، ومن هنا يُمكن تفسير الدعم الفرنسي للثورات وحركات الاستقلال في منطقة البلقان واليونان خلال القرن التاسع عشر. وسعت الإدارة الفرنسية إلى تطبيق هذه الاستراتيجية على المشرق العربي، لكنّ الآية كانت معكوسة؛ فالأكثرية مُسلمة في هذه المجتمعات. مع ذلك فإنّ هذا السيناريو هو ما جرى بالفعل اعتمادُه بعد غزو غُورو للمَشرق، وتقسيمه إيّاه إلى خمس دُول من بينها "لبنان الكبير".

ويستهجن القشّ أنّه، رغم مرور مئة عام على هذا الحدث وخسارة فرنسا إرثها الاستعماري المُتشظّي في عدد من الدول، "ما زال هُناك في لبنان مَن ينتظر مِن ماكرون أن يأتي له برئيس". أمّا بخصوص "اهتمام" البابوية بكنائس المشرق، فيوضّح أنّه بدأ في القرن السادس عشر الذي "ازدهر" فيه بثُّ الكثلكة في المشرق، والذي تضافر مع أسباب سياسية شهدها المشرق، كلجوء الأمير فخر الدين المعني الثاني إلى آل ميديتشي، بما حمله هذا الانتقال السياسي من انفتاح بشكل أو بآخر على النهضة الإيطالية، ومن ضمنها ما يُمكن تسميته بـ"الاستشراق الكنسي"، الذي سبق صِنوَه الفرنسي.

أمّا المتدخّل الثاني، عبد الصمد بندرعو، فأشار إلى أنّ "السردية الاستشراقية" تناولت علاقة القدرات العقلية بالعِرق، وممثّلُ هذه المقولة أوروبياً هو هيغل. غير أنّ بندرعو تساءل إذا ما كانت بعض أصول هذه الخطابات تعود إلى فِرَق كلامية إسلامية كالمعتزلة، وبالأخصّ الجاحظ الذي ميّز في كتابات له بين الأجناس والأعراق على أساسٍ جغرافي، ودَور هذا التمييز في اكتمال أو نضوج الملَكة العقلية من عدمها. لكنّ القش نفى أن تكون مثل هذه الكتابات هي ما أسّس للجدل الكلامي، وبرأيه فإنّ المعتزلة في الأساس جاءت لتُجيبَ عن سؤال سياسي: مَن يخلف النبيّ بعد رحيله؟

غلاف الكتاب

لوهلة، قد يبدو النقاش هُنا بعيداً عن موضوع الكتاب، ولكنّ ما أرادته الحوارية هو توسيع القول في كلّ ما يمُتُّ بصلة إلى عموم النظريات السياسية، وبالتالي لا حدود في استعراض بعض أفكار "المرآة المُتكسّرة"، فالراهن والملموس لا يتحرّكان بمعزل عمّا جرى في الماضي.

من جهته، تطرّق المتدخّل الثالث، إبراهيم زروق، إلى رؤية القشّ حول مقولة "العرب مع وقف التنفيذ"، والتي قدّم فيها الباحث اللبناني تحليلاً جيوسياسياً للواقع العربي، انطلاقاً من العامّ إلى الخاصّ، وتساءل زروق عن مدى مشروعية حداثة وعِلمانية الأنظمة العربية، وهل يُمكن اتّباع ذات الرسم البياني الذي نهجَه الغرب في قراءتنا لتطوُّر العالَم العربي؟ وهل يُمكن للدول العربية أن تبْني حداثةً جديدة؟

يعود القشّ ليميّز بين وضعيّتين في كتابه: الدول القيادية، ومثلُها مصر التي قادت العالَم العربي لأكثر من عشرين عاماً في أواسط القرن الماضي، ومن ثم سوريّة والعراق - في حال اتّحدا - ودول الخليج، والمغرب العربي (المغرب والجزائر على وجه الخصوص). في المقابل هناك "الدولة الزبون"، التي لا يُمكن أن تعرف ماذا يحدُث داخلها انطلاقاً من ذاتها فقط، ومثلُها لبنان الذي "لا نعرف ماذا يجري فيه، انطلاقاً من لبنان فقط".

يُميّز بين نوعَين من الدولة: القيادية، والدولة- الزبون

في المقابل، يستطرد القشّ في تبيان أنّ هناك مَن ما يزال مُقتنعاً بأن الأنظمة الشمولية تُقرَأ من وجهة نظر "البرجوازية الوطنية"، ولو أخذنا نموذج "البعث" السوري لأدركنا حجْم الطائفية المُتغلغلة فيه، حتى إنّ مقولةً أو/ وتحليلاً كالبرجوازية الوطنية ستغدو مجرّد تبرير كي لا يُوقَف في وجه جرائم هذا "النظام الحداثي"، الذي لم تصل بعدُ النظريات السياسية إلى تفسيره أو اكتناه جوهره الشُّمولي، وإلى أيّ نوع منها ينتسب.

وهذا ما حاول القشّ أن يُجيب عنه بعد المداخلة الأخيرة لخالد بنشريف، والتي تساءل صاحبُها حول أيّ تصوُّر للوطنية يعتمدُه القشّ لخروج لبنان من عنق زجاجة التشظّي. وفي هذا السياق، يستعير الباحث اللبناني، لفهم تجربة البعث السوري، مصطلحات حنا أرندت عن "أصول التوتاليتارية"، فأُولى ارتدادات نظام البعث انعكست على "الداخل اللبناني"، ولا تقتصر هذه التدخّلات عليه، بل تمتدّ اليوم إلى إيران بمذهبيّتها (الشيعية) التي تُجيّش الحشود، ولاعبين آخرين في الإقليم كالسعودية. وكلّ ما سبق يضغط على هذا الكيان جاعلاً من كلّ ما في داخله يُصبح خارجه، والعكس صحيح، إنّها حالةُ قلْبٍ للقوى بين ما هو جوّاني وما هو برّاني.

مع هذا كلّه، يُبقِي القشّ الأولوية في فهم ما يعتمل داخل النموذج اللبناني إلى فحص شمولية نظام البعث السوري، الذي هيمن على لبنان طيلة ثلاثين عاماً، وحاول بناء شموليته على الطابع الستاليني، من خلال ضرْب العصَبيّات الطائفية المُنافِسة لعصبيّته (العلَويّة) بقوّة "الرعب" التي أشاعها عن نفسه، لكنّه رغم ذلك فشل في الوصول إلى شموليّة تامّة كما كان يُريد، بحُكم أنّ مجتمعاتنا غير مبنيّة أصلاً على الفردنة، على خلاف الشموليات الأوروبية.

 
المساهمون