لا بد أن حياة سلمان رشدي، منذ نشرَ "آيات شيطانية"، قريبة من أن تكون رواية، بل هي قريبة من أن تكون واحدة من رواياته. من ذلك قفْز شاب لبناني من أسرة شيعية مولود في أميركا، بعد الفتوى بخمسة وثلاثين عاماً، وإعمال سكّينه في عنق الكاتب، بعدما كان رئيس الجمهورية الإيرانية، يومذاك، محمد خاتمي، أوحى بانتهاء أمد الفتوى وتجاوزها. ما جرى لرشدي، بعد كل هذا الوقت، يكاد يكون خارجاً من واقعيته السحرية. يكاد يكون توهّماً بحتاً وخياراً صرفاً، بحيث نتساءل إذا كان حقّاً حدث.
الآن، إذ نتذكّر كيف جرّت عليه "آيات شيطانية" الاختفاءَ سنينَ طويلة، بل عقوداً من سنين؛ وكيف عاش، منذ ذلك الحين، مثل أبطاله، بأسماء وهمية، وكأنّها مجرد تخييل أو خَفاء تام. كان اسمه يكبر في العتم، وقصّته تتّصل وتتوارد في سرٍّ بحت. كان آنذاك لا يملك، بعد، اسمه ولا حياته ولا حتى جسده، وبالتأكيد كانت السكاكين وراءه وفي إثره؛ بالتأكيد كان العالم بكامله قفصاً له، والحياة بكلّيتها مجرّد خوف مقيم. وبالتأكيد كان صار ــ أكثر من أي شخص آخر ــ صاحب حياة مستعارة، واسمٍ مستعار. أي أنه بات يرتجل حياته ويخترعها، كما لو كان يكتبها، كما لو كان بطلَها، وهو هكذا يؤلّفها ويصنعها كما لو كانت، أكثر من أي شيء آخر، روايته الخاصة.
غدا سلمان رشدي، بسبب ذلك، مؤلّف "آيات شيطانية" فحسب. بل إن كثيرين، بعد محاولة اغتياله، لم يذكروا له سوى هذه الرواية، التي صارت اسمَه الآخر وبلده وسيرته. لم تعد لكلّ مؤلَّفات سلمان رشدي الشهرة التي صارت لروايته هذه، التي أذاعتها وأشهرتها الصدمة التي واجهتها، والاستفزاز الذي أثارته. ما جعلها تطغى على كاتبها وعلى مؤلّفاته كلّها.
مؤلّفو "آيات شيطانية" كُثر، وعلى رأسهم منتقدوها وخصومها
لم يكن هذا على الإطلاق مستمدّاً من فنها ومن وزنها الروائي. بقي ذلك بعيداً وغير محسوب. لم يزن أحدٌ هذه الرواية في مؤلّفات سلمان رشدي الروائي، ولم يحتجّ أحد بقيمتها الروائية. لقد اشتهرت بما أثارته من صيحة في الجوّ الإسلامي، وبالفتوى الخمينية التي لحقتها. كانت هكذا بعيدةً عن نفسها، بعيدة عن فنّها وعن حقيقتها، لأنّ الذين أشهروها ليسوا، بأية حال، كاتبها وقرّاءها. الذين أشهروها، بدءاً من الإمام الخميني، لم يكونوا أفضل قرّائها، بل هم في غالبهم لم يقرأوها، فقراءتها قد تكون أيضاً ذنباً. أولئك الذين لم يبالوا بقيمتها وفنّها هم الذين جعلوها تشتهر وتتصدّر.
لكنّنا الآن أمام رواية أخرى بَنَت عليها، إذا انتبهنا إلى ما تحويه محاولة الاغتيال من خفاء وتنكّر وتربّص وائتمار ودموية. إذا انتبهنا إلى ذلك كلّه، بدت لنا منه رواية بوليسية، الخفاءُ والتربّص والجريمة أركانها. نحن هكذا أمام رواية كان سلمان رشدي بطلها بدون أن يختار ذلك، وبدون أن يشاءه. كأن "آيات شيطانية"، بعنوانها المدوّي، لم تعد فقط مؤلَّفَ سلمان رشدي، ولم تبق تحفته. إنها، مع ملابساتها كلها، رواية متعدّدة المؤلفين، إذ إن سلمان رشدي ليس وحده الذي ألّفها وصنعها. لقد شارك في هذا العمل كلّ مَن صوّبوا على الرواية، وكل مَن ندّدوا بها، وكل مَن كفّروا صاحبها وأدانوه وحكموا بإعدامه. "آيات شيطانية" هي هذا كلّه. إنها رواية رشدي بقدر ما هي رواية أعدائه وخصومه، وبينهم مَن حاولوا قتله والذين حكموا بإعدامه.
الآن يعرفون "آيات شيطانية" فحسب. وبعد محاولة اغتيال رشدي ستبقى هذه الرواية، وما جرّته، كحدث تاريخي لا تصل إليه رواية، ولا يصل إليه أدب. لذلك نتساءل ما الذي جناه رشدي من ذلك، وما جناه مغتالوه، سوى التعمية على أدبه، بل وإخراج مؤلَّفاته كلّها من خانة الأدب والرواية، وإلحاقه بسجال غامض تتقاطع فيه السياسة مع العقيدة مع الخيار البوليسي، فلا تبقى الرواية رواية إلّا بما فيها من درْس، وما يشبه أن يكون دعوة. عند ذلك نفكّر بمؤلّفات رشدي كلّها، التي بدأت بعمل ساحر هو "أطفال منتصف الليل"، الرواية التي بنت اسم رشدي الشاب. هذه الرواية التي تراكمت عليها جوائز "بوكر"، كان يمكنها أن تنقل رشدي إلى "نوبل"، فليس عبد الرزاق قرنح أجدر منه بها.
إذاً، "آيات شيطانية"، وإنْ حملت اسم رشدي عبثاً، فمؤلّفوها ــ وعلى رأسهم منتقدوها وخصومها ــ كثر، ولهم يدٌ في شهرتها ليست لمؤلّفها، بل هي تدين أكثر لهؤلاء. الغالب أن تحفة رشدي "أطفال منتصف الليل"، مع كلّ جوائز "بوكر"، تنزاح، وينزاح معها رشدي الحقيقي إلى ما يشبه النسيان.
* شاعر وروائي من لبنان