سرقة الأسماء.. احتلال لغويّ على أرض فلسطين

19 ابريل 2021
خريطة للقدس تعود لعام 1770، وضعها لويس جوزف موندهار (Getty)
+ الخط -

في كتابه "فلسطين: أربعة آلاف عام من التاريخ" (مركز دراسات الوحدة العربية، 2020)، يؤّرخُ الباحث الفلسطيني نور مصالحة (1957) لاسمٍ قديم ذي جذورٍ ضاربة في التاريخ، مرَّت قربه إمبراطوريات كثيرة، كالرومانية والبيزنطية والإسلامية والعثمانية والبريطانية. الصهيونية قامت ولا تزال بحملات بشعة ضدَّ الاسم وضدَّ عروبة البلد وسكّانه الأصليين وتاريخهم، ففبركت أسماء بناءً على ما تزعمُ أنّه "توراتيّة" البلاد، وحاولت إلغاء كلّ ما له علاقة بهذه البلاد التي مرَّ عليها حكّام وأمم وإمبراطوريات، قديماً وحديثاً، وبقيت رغم كلّ ذلك: فلسطين.

حاولت الصهيونية ولا تزال ــ بمساعدة دول غربيّة إمبريالية ــ محو التاريخ الفلسطيني بتغيير أسماء المدن والقرى وفبركةِ آثارٍ لكي تؤصّلَ لنفسها تاريخاً غير موجود. الاستعمار اللّغوي هو إحدى الأدوات الرئيسية في الاستعمار الحقيقي على الأرض، بحيث يتمّ من خلاله تَأطير وتوطين وعيٍ مزيّف يقوم على أسماء ومسميّات ودلالات جديدة لا علاقة لها بالحقّ وأصحابه. زيفُ الحركة الصهيونية وادعاءاتها في فلسطين مفنَّدٌ تفنيداً شاملاً في هذا الكتاب، المهمّ بمحتواه، حيثُ يوضح نور مصالحة كيف أنَّ الصهيونية فبركت وغيّرت بشكل واسعٍ وممنهج حتى أسماء قادتها وروّادها في كثير من المجالات.

هكذا، استُبدلت أسماؤهم الأوروبيّة بأخرى عبريّة ذات طابع صهيوني حديث. فلنأخذ، مثلاً، بعضاً من رؤساء الوزراء الإسرائيليين السابقين: أرئيل شارون وُلد باسم أرئيل شاينرمان، وميناحيم بيغن وُلد باسم مايكسلاو بيغون، وإسحاق رابين وُلد باسم نحميا روبيتزوف، إلخ. هذا بينما قضت الصهيونية على كثيرٍ من الأسماء الفلسطينية وَحَرَّفتها لإعطائها نبرةً أو دلالات عبريّة بعيدة أو منتحلة عن أصل وأصالة الأسماء الفلسطينية والعربية المتناسقة مع التاريخ الطويل والقديم وطبيعة فلسطين.

الاستعمار اللّغوي أداة رئيسية من أدوات الاستعمار الفعليّ

ولا يُخفي الكثير من القادة الصهاينة أنهم مفبركون بتاريخهم وأسمائهم وعاداتهم الجديدة ممَّا سرقوه من فلسطين وحوّلوه إلى مُلكيّة صهيونية، زاعمين أنّ لها أصولاً تاريخية. فها هو موشيه ديان، "وزير الدفاع" سابقاً، يصفُ بكلّ فجاجة لجمهور صهيوني في إحدى المستوطنات عام 1969 كيف أنَّ "قرى يهودية أخذت مكان قرى عربية"، مضيفاً: "أنتَم لا تعرفون أسماء هذه القرى، وأنا لا ألومكم على ذلك لأنّ كتب الجغرافيا لم تعد موجودة. ليس فقط أنَّ الكتب غير موجودة، ولكنّ القرى العربية لم تعد هناك أيضاً. ناهلال أخذت مكان معلول، ومستوطنة غيفات محل جيبتا، ومستوطنة ساريد محل حنفية، وكفار يوهشا محل تل شامان. لا يوجد مكانٌ واحد في هذه البلاد لم يكن فيه سكّان عرب".

الاستعمار الثقافي الصهيوني مستمرّ الآن في القدس وفي أنحاء كثيرة في الضفة الغربية، وكأنَّ الفلسطينيين دخلاء على بلادهم بينما هم لم يعرفوا أيِّ بلادٍ غيرها. والمؤسف أنَّ مؤسّسات إعلام عالميّة مثل "بي بي سي" وغيرها تردّد روايات صهيونية وأسماء مفبركة تماماً، بطريقةٍ تثبت تحالفاً أيديولوجياً ولغوياً في الغرب مع الاحتلال. إذ لا نجدُ الفلسطينيين في برامج وثائقية وتثقيفية إلا كزوائد وإضافات مزعجة على الهامش، وهم في بلادهم وعلى أرض بلادهم منذ آلاف السنين، بينما الصهاينة الجدد الفاشيون، أمثال سموتيرتش، أوكراني الأصل، ونتنياهو، بولندي الأصل، يصولون ويعربدون وتدلّلهم شخصيات يمينية وأخرى ثقافية غربية على حساب السكّان الأصليين الفلسطينيين العرب.

مهزلةُ حالةِ العالم العربي اليوم أنّه يسمحُ لنفسه أن يُطَبِّع ويهرول تجاه أُناسٍ فبركوا لأنفسهم تاريخاً مزيّفاً على أرضٍ عربيةٍ أباً عن جد. فالاحتلال اللغوي الذي فرضته الصهيونية على العرب والغرب لا يقلُّ شراسةً عن الاحتلال على الأرض، إذ يهدف إلى تغيير وعي الأجيال ويعمّق في وجدانهم فكرة أنَّ الصهيونية والقائمين عليها شيء طبيعي، بينما هي في الحقيقة حركة استيطانية واحتلالية ليست لها أيّ أسّس وحقوق تاريخية في فلسطين. 

ومن هنا فإنّه من المدهش أنْ ينبطحَ بعضٌ من العرب أمام مجموعة مارقة وسارقة لأرضهم وتراثهم وأسمائهم. وقد نجحَت "إسرائيل" بشكلٍ كبير في فرض أسمائها المزيّفة على الغرب الذي ساعدها فأصبحت كأنّها جزءٌ عضوي من التاريخ القديم، بحيثُ تستخدم وسائل الإعلام مسمّياتها، من جبل الهيكل في إشارة إلى المسجد الأقصى، إلى يهودا والسامرة، في إشارة إلى الضفة الغربية، فضلاً عن أسماء مثل تل أبيب التي ليس لها أيِّ وجود في التاريخ، حتى باعتراف أغلبية علماء الآثار الإسرائيليين.

من الواجب هنا توجيه التحيّة إلى المؤرّخ نور مصالحة، الذي بذل جهداً كبيراً في كشفِ زيف الصهيونية وثقافتها الخطيرة عبر كتابه القيّم "فلسطين: أربعة آلاف عام من التاريخ" وكتبٍ أخرى مهمّة له، ولغيره من كتّاب فلسطينيين وعرب يستحقّون التقدير على جهودهم الكبيرة في كشفِ زيف الصهيونية المستمرّ في فلسطين.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون