زيارة ثانية إلى حجارة ابن الوردي

03 اغسطس 2022
جزء من لوحة لـ يحيى الشيخ، ليبيا، زيت على خشب، 2002
+ الخط -

الأرض،
هذه الياقوتة المتّكئة على عنق سنبلة؛
بحارٌ شاسعة، حوافّها ظُلمة، وضوء.
هي أيضاً كثبان رمل كأفخاذ نساء شبقات.
وهي في الديجور الأكحل عواء أجنّة تتقلّب في البراري.
كيفما مددتَ يدك أو كيفما ضجّت في فؤادك الأشجان،
ستقف هنا وستقف هناك، ملوّحاً بأحلامك إلى مسافرين في وقتٍ لا يتقدّم ولا يتأخّر!

كنّا قد دخلنا تلك القرية على جرفٍ بحريٍّ عال.
كان أهل القرية وسيّد القرية، يرتدون أقنعة ملوّنة عليها قرونُ أوعالٍ طويلة، واقفين لا ينطقون بشيء!
كنّا بضعة أنفارٍ، منهَكين، جوعى. حين التفتُّ ناحية الشجرة الوحيدة الكبيرة، لمحتُ كأنّ ثمارها جميعها، حجارة!
قال لنا سيّد القرية: لا يقدر أحد منكم على مغادرة هذا المكان إلّا إذا استبدل قلبه بحجر من أحجار هذه الشجرة.
"وإن لم نفعل، ماذا سيحدث لنا؟" قلنا في صوت واحد
"سنسقي بدمائكم هذه الشجرة، وسنرصّع بأعينكم سماء القرية".
"وماذا ستفعلون بقلوبنا إن وهبناها لكم؟"
"سنحملها على ظهور طيورٍ تأتي لزيارتنا مرّة في السنة".
"وإلى أين تأخذها؟"
"هذا أمر لا علم لنا به".
"وإن لم تعطوا الطيور القلوب، ما الذي تفعله لكم".
"تأخذ قلوب أطفالنا ولا تُخرج هذه الشجرة ثمارها".
"وما فائدة حجارة هذه الشجرة؟"
"كلّ حجر من هذه الحجارة، مفتاح قول، أو أمرٍ أو قبر!"


الحجر الأبيض
الجبلُ له قلبٌ، الشجرُ له وسادةٌ.
إن ضرب رأسه سال دمُه أبيضَ، ومات.
إن اصفرّ، رُفِعت الحُجبُ وتكلّم بما شاء.
إن احمرَّ صار لا يفارق.
إن اغبرّ أعان وإن اخضرّ فرِحتِ التينُ والأعناب وإن اسودّ حَزِن الهوشُ والهوام.

حجرٌ،
لا يهرم ولا تتبعه الشهوات.
يُلقى به على الأرض كما تُلقى الغيوم على صدر السماء!
حجرٌ،
بائع أوهام، وخابز فطائر النور للثكالى والأرامل.
حجرٌ،
يكون له ألف وجه في الزحام،
ووجه واحد حين تدخلُ بذرة في فرْج أرض!

الحجر الأحمر
مفتاح وقفل.
حوت في بطن محيط.
تنّينٌ، جوّاب آفاق، صيّاد قتَلة، وصيّاد أحلام.

حجرٌ،
لا دم له ولا نفَسْ.
الأبيضُ يمدّ أمامه الطرقَ والمسالك.
إن اسودّ وَهبَ القدرة وكثرة نسلِ الأحلام.
إن اغبرّ أو اصفرّ أَدلقَ
من فَم الإبريق بحرَ المحبّة.
إن اخضرّ دُكّتِ النِّصالُ وفَشلتْ ريحُها.

الحجر البنفسجي
هو،
وردةُ بهجةٍ، لجّةٌ وساحلٌ.
إليه يجيء ماءُ كلّ بئرٍ وكلّ عينٍ.
إن اسودّ فذلك لوبانُ الحيرة.
إن اصفرّ خرج كما يخرج الخيطُ من سمِّ الخياط.
إن اغبرّ مدّ جفنُ العين سريراً للمحبوب.
إن احمرّ كان كالرغيف في حُمرة التنّور.

حجرٌ،
لا ينام إلّا على خدّ حسناء،
ولا يُطربه إلا سماع جريان ماء في خلاء!

الحجر الأخضر
من أينما أتيتَ، تجده أمامك وخلفك.
حارس الغانيات، وحارس الكتب في الصوامع والأديرة.
أصحابه مهرة في الضرب بالسيوف والمنجنيق،
يصيح مرّة كلّ قرن من الزمان، فتنفلق الأرض وتُخرج دخانها.

حجرٌ،
الأبيضُ صحوته والسوادُ شمسُه الطالعةُ.
إن اصفرّ شفي وكذلك إن اغبرّ.
حُمرته فتيلةُ مصباح وزيته نهرٌ.

حجر الخطّيف
يعلّق مرآته على شجرة تين.
الأحمرُ الفلفليُّ غربالُ هفوات العقلِ،
والأبيضُ الثلجيّ لسانُ القلب وأُذنيه.

حجر،
كثير السهو،
في غفلته تتخطّفه زرازير التوت وحمرة الرمّان!
حجرٌ،
باردٌ كقطرات المطر!

حجر السنونو
تأتي به السنونوة لأفراخها،
والزعفرانُ مَصْيدته التي يدخلها الغرباء والشعراء.

حجرٌ،
بعضه حياة، وبعضه فراق.
ريح نعناع ريّان،
حين يجيش بأحزانه، تأخذه إلى سماء، يحوّم ما طاب له.

حجرٌ،
ما نظر إليه ناظرٌ إلّا رأى وجهه فيه!

حجر القيْ
هو من أرض طين مبلول،
جاء به النيلُ، ثمّ
أخرجته الأيدي المتعبة من بطن الوادي.
مَن
التقطَه قَذفَ ماء جوفه، ومَن تركَه نجا.

حجر،
كلّه غياب!

حجر المطر
صاحب ليل، وصاحب خمر.
هو ببلاد التُرك،
يتنقّل من يدٍ إلى يد
ومن قرية إلى قرية.

حجرٌ،
ملكٌ،
إن لامس ماءً أمطرت السماء.

حجر البحر
خفيفٌ خشنٌ،
صاعدٌ نازلٌ، في غيّه
تتباهى الحسناوات، 
وفي حضرته لا غريق في بحر،
ولا ماء يغلي في قدر.

حجر الدجاجة
يمكن له أن يجعل الكون
ظِلاً في قوانص الدجاج،
مثلما يمكن له
أن يسرق اللحن من قلب العندليب.

حجرٌ،
في ساحته
لا طفل يفزع في نومه
ولا شيخ ينام وحيداً في سريره.

حجر البهت
في البريّة تأتيه الكائنات،
كلّ بحسب حاله،
هو نخلة بلا اسم،
وكمأة في جبّ عميق.

حجرٌ،
إنسيُّ المزاج،
شغوفٌ بالضحك والسرور.

حجر الدرّ واللؤلؤ
تماماً في الثامن من نيسان،
تصطفّ أصدافُ اليمّ على سطح اليمّ،
تُفردُ للسماء أجنحتها الصلبة،
تخضّ الكون بطَرقات الريح.

تماماً، حين يأتي القمر الكامل،
يبيضّ سطحُ البحر وتضع السماءُ أحمالها:
قطرةً في كلّ صَدفة أو أكثر.
وإلى قاع البحر تعود، ثمّ على مهلٍ،
تبني بيوتها على شعاب مرجان.

حجر،
النسيان بعض أسمائه.


* ابن الوردي: هو عمر بن مظفر بن عمر بن محمد ابن أبي الفوارس، أبو حفص، زين الدين ابن الوردي. وُلد بحلب سنة 1292 ومات بالطاعون سنة 1349م. من مؤلّفاته: "خريدة العجائب وفريدة الغرائب".


* شاعر ومترجم من ليبيا

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون