من بين الأحكام النقدية التي رُوِّج لها، في العقود الأخيرة - بخصوص الجنس الأدبي الأكثر اجتراحاً من قِبل المُبدعين العرب، والأكثر مقروئيةً من بين الأجناس الأدبية العديدة الحاضرة في المجال الإبداعي عربيّاً - الإقرارُ بانبثاقِ الرواية وهيمنتِها، والتسليمُ بأنَّ الزمن الإبداعي العربي المعاصر هو "زمن الرواية".
لقد عُقِدتْ في هذا الشأن مؤتمراتٌ للنظر في "زمن الرواية"، وصدرت أعداد خاصّة في مجلّات متنوّعة عالجَت الموضوع، مثلما أُلِّفتْ كُتبٌ تخوض في هذه الظاهرة الأدبية التي عزَّزها تنامي التأليف في الرواية والإقبال على استهلاكها، ناهيك عن تعاطي شُعراء عرب متميِّزين الكتابةَ فيها، مع ما لهذا الانصراف إليها من قِبَلهم من رمزية، نظراً لمكانة الشعر التاريخية في تاريخ الثقافة العربية.
نعرف أنَّ الرواية جنسٌ أدبي غربي طارئ على الثقافة العربية، وأنها بدأت اختراق ثقافتنا في سياق تَبَعيّ استعماريّ، وأنّ الاحتكاك بها أحدث تحوُّلاً عميقاً في تقاليد السَّرد العربي، وأنه ما كان لهذا الاحتكاك أن يكون عامّاً وقويّاً لولا الدور الذي قامت به الترجمة، في التعريف بأدب الغرب، وما نجم عنه من ظهور أجناس أدبية جديدة في ثقافتنا؛ كالمسرح والقصّة وغيرهما. إذن، لا عجب في أن يكون زمننا هذا زمنَ الترجمة بامتياز، لكونها الفاعل الأساسَ في تحريك الآسن، ورَفْدنا بالجِدّة، والدفع بأدبنا إلى المغامرة ليس في الرواية وحدها، بل في الأجناس جميعها، وفي تجسيد التلاقح الثقافي.
كثيراً ما تكون الترجمة دالّة على الزمن الذي صيغت فيه
وطبيعي، تبعاً لذلك، أن تَكُون الترجمة في حدّ ذاتها جنساً أدبياً على حدة، وأن يُعترَف لها بتأثيرها القوي في الوسط الأدبي والاجتماعي معاً، بل أن ننتبه إلى دورها الحاسم في لحظاتٍ مفصلية مُعيَّنة تكون الأمم مارَّةً بها، ففي مثل تلك اللحظات التاريخية يتوقّف على حركة الترجمة تطوُّر المجتمع ثقافياً أو تراجُعه، أو في تنوُّع إصداراتها أو تركيزها على خطّ بعينه، ويكفي التذكير بدورها في ترسيم اللغات الإقليميّة بصفتها لغات مستقلّة إثر ترجمة الإنجيل من اللاتينية إلى باقي لغات أوروبا المعروفة حالياً.
كذلك تكون الترجمة دالّة على الزمن الذي صيغت فيه، لأنّ في صدور كُتُب بعينها مترجَمةً في زمن بذاته، عند مؤسَّسات ترعاها، ما يشي بأنها تتأثّر وتُؤثّر في زمن ظهورها، ولأن بروزَها يُفصح عن وضعها في سياق محدَّد، وما يُمكن أن يكون مطبوعاً به من احتقان سياسي أو اجتماعي، أو عن تمثيلها لحساسية تبحث لنفسها عن موقع، إلخ.
ينقل المترجِم النصّ ويُحوِّله ويؤوّله بأسلوب معيّن، ويتصرَّف فيه بصيغة يتصوُّرها ملائمةً لوسطه وزمانه، فتبدو ترجمتُه مختلفةً إلى حد كبير عن الأصل، أي في غير الصورة التي عُرِف بها، أو تَظهر مختلفةً عن ترجمات سبقتها زمنياً، فينحو النقّاد وحتّى القرّاءُ باللائمة عليه، ويتّهمونه سريعاً بالخيانة أو التحريف، نظرا لتمثُّلهم الترجمة في صورة بعينها؛ يَقيسون عليها عمَلَ المترجِم، وينسى هؤلاء أن للترجمة قُرّاءَها الذين تتوجَّه إليهم، والذين يَكونون من أبناء زمنه من المعاصرين له، فهو يترجم لهم، لأنه يعرف أخلاقهم وأذواقهم وفلسفتهم، وليس لمن رحلوا عن الوجود، من الذين لن يعرفوا مآل أعمالهم، ولن يطَّلعوا بأي حال على ما أُنجِز بَعدهم، أو حتى لمن سيأتون لاحقاً ممّن سيكون لهم معاصروهم من المترجِمين الذين يُراعون قُرّاءَ عصرهم، لأنّ لكل عصر ذوقَه وفهمَه، وهذا يعني أنَّ للترجمةِ زَمناً آخرَ؛ لا ينحصر في ما عرَضْنا له لحد الآن من هيمنة وتأثير.
ولا يقف الأمر هنا، فعلاقة الترجمة بالزمن أكثر تعقيداً، لأنّ لها قدرة خارقة على التحرّك بين الأزمنة، فتَنْقُل كاتباً من زمنِه الماضي، إن كان ممّن غادروا العالَم، وتبعثه في الحياة مجدَّداً مجَسَّداً في كتابتِه، لكنْ في غير لسانه، فيكتسب قرّاءَ جُدداً يُعطونه الاستمرارية في الحياة، وَفق والتر بنيامين، وتغدو نصوصه أو كُتبه القادمة من زمن سحيق حاضرة في ثقافة غريبة، ويصير هذا المؤلِّف معاصراً لقُرّاء الزمن الذي تُترجَم فيه نصوصُه.
* أكاديمي ومترجم من المغرب