زاويتان على الحرم الإبراهيمي

19 سبتمبر 2024
من المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل، 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الكاتب يتأمل صورة للحرم الإبراهيمي وحديقته الأمامية، مستذكراً أوقاتاً قضاها هناك في رمضان، ويشعر بأن هذه المساحة الصغيرة أصبحت عالماً خرافياً في مخيلته بسبب القيود والحواجز.
- يتحدث عن زوايا لم يتمكن من رؤيتها في الحرم بسبب وجود الجنود، ويستذكر حكايات والده عن البلدة القديمة والتجار الذين كانوا يأتون للصلاة.
- يعبر عن أمله في أن يتمكن يوماً من الصلاة إماماً في الحرم، ويتساءل عن متى ستنتهي القيود المفروضة على دخوله.

عثرتُ على صورة لـ الحرم الإبراهيمي تُظهر حديقته الأمامية، حفظتُها على هاتفي وأفتحها بين فترة وفترة، وأتأمّلها طويلاً طويلاً! هذه الحديقة الصغيرة أمام المسجد، وخلف هذا المبنى الغريب والدرج المعتنى به، هو الجانب المحرَّم على الفلسطيني إلّا في المناسبات الدينية وأحياناً فقط.

في ذلك الجانب وأمام حائط المسجد الضخم، كنتُ أقضي ساعات طويلة من قبل صلاة الظهر إلى ما بعد صلاة العصر في شهر رمضان، بشكل شبه يومي، وعلى مدار ثلاثة أعوام، حين كنّا لا نزال نسكن تل الرميدة؛ الحي المُستحدث من البلدة القديمة، كنت أتحيّن فرصة أن يُتاح لنا هذا الجانب المنظَّم والواسع والرتيب للصلاة والإقامة، فأُقيم طويلاً فيه كأنّي أعوِّض كلّ ما فاتني. أتذكّر مرّةً أنّي التقطتُ صوراً عديدةً أمام حائط المسجد المواجِه للحديقة، ضاعت كلّ هذه الصور، لكنّي لفرط ما أطلتُ النظر فيها حفظتها كما هي، فهي مطبوعة في ذاكرتي ولو ضاع وجودها الفيزيائي.

وهذه الصورة الآن أفتحها وأتأمّلها، ما أصغر هذه المساحة! ما أصغر الحديقة وأضيق الدرج! كيف احتفظَت بها ذاكرتي ساحات ضخمة كنت ألعب فيها وأُشاكس مع أصدقائي ثم نستريح قبل الصلاة بقليل وبعدها لقراءة شيء من القرآن؟

هذه المساحة الصغيرة غدت في مخيّلتي عالماً خرافياً بلا نهاية

الحواجز الملعونة، الجنود المدجّجون بالسلاح، البوّابات الأربع التي أمرُّ فيها، خواتمي التي أنساها دائماً على الطاولة حين أضطرّ لخلعها، بطاقات الهوية التي نُسأل عنها رغم أنّنا لم نحصل عليها بعد، كلّها جعلت هذه المساحة الصغيرة في مخيّلتي عالماً خرافياً بلا نهاية.


■ ■ ■


هناك زوايا كثيرة لم أنظر يوماً من خلالها إلى الحرم الإبراهيمي،
يحتلّها جندي منذ أن خُلقتُ إلى الآن!
لم ينزل حتى هذه اللحظة،
وإلى هذه اللحظة لم يُسمح لي بالصعود!

هذه الساحة إلى يمين الحرم كانت تعجّ بحشود التجّار من كلّ مدن العالم الإسلامي، كانوا يركنون جمالهم على بُعد زقاقين، ويتركون متاعهم في الخان، ثم يُقبلون إلى الصلاة في الحرم.

هكذا أخبرني أبي، لكنّه لم يعُد يذكر هل رأى هذا بعينيه أم هي ذكرى قصّة رواها جدّي؟

لم أعد أسأله. أستمتع وهو يخبرني عن البلدة القديمة، كأنّ آخر خمسمئة عام حدثت دفعةً واحدة، وكأنّه عاصرها كلّها.

أبي عاش في الخليل كلّ تاريخها، ولا بدّ أن أدعه في يوم يُكمل الحكاية لينقلها إليّ.
لكنّ ما يمنعني من أن أرى الحرم من ذلك التلّ؟
ومتى ينزل ذلك الجندي؟
ومتى أُصلّي إماماً في الحرم؟ أتناوب مع برهان الدين الجعبري، الذي زارهُ ابن بطوطة حين مرّ من غزّة إلى الخليل، ومنهما إلى القدس..
صلّى أبي معهما في تلك الليلة،
كان له لقب غريب وقتئذ، له صلة بالرمل.

أخبرني الإمام مرّةً أنّني إذا أتممتُ حفظ القرآن فسيُعطيني شهادة عليها أسماء شيوخه منذ نزل، صلّى واحدهم آخر ثمانمئة عام إماماً للحرم!
وأبي صلّى خلفهم جميعاً.
لكن لماذا لا أنظر إلى الحرم من تلك الزاوية؟
ومن منع دخول الناس إليه اليوم؟


* كاتب فلسطيني مقيم في ألمانيا

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون