روبنسون كروزو: أصل الانتداب وفصله

12 يوليو 2024
روبنسون كروزو في رسم من القرن التاسع عشر
+ الخط -

في رواية دانييل ديفو "روبنسون كروزو" (ترجمها أسامة إسبر وصدرت عن وزارة الثقافة السورية عام 2007)، وهو واحد من مؤسّسي فنّ الرواية بحسب ما يشير إليه معظم الذين كتبوا عن أصول هذا الفنّ، يجد روبنسون المغامر نفسه في أرض إحدى الجُزر، بعد أن اصطدمت سفينته بالصخور، وتحطّمت، وغرق بحارّتها جميعهم. وسوف يستثير تعاطفنا، وشفقتنا، على مصابه المؤلم، خطوةً بعد أُخرى، بحيث يُفقدنا القدرة على رؤية الخطاب، بينما نحن مسحورون بالحكاية.

هذه واحدة من المكاسب الأُولى التي قدّمها هذا الفن للحكاية من جهة، وللرسالة الفكرية، أو السياسية، من جهة أُخرى، منذ أن بدأ كفنّ يستطيع أن يُخفي مقاصده جيّداً، خلف غلالة كتيمة من الوقائع المشوّقة. فعلى الرغم من أنّ الروائي يملأ ثلثَي الرواية بحياة بطله روبنسون كروزو على الجزيرة وحيداً، فإنّ المغامرة التي يخوضها تترك القارئ في مناخ من الترقّب، والحذر، والخوف على حياته. ولكن الغاية كانت الانتباه إلى قدرة الإنسان الجديد "المتحضّر" على إعادة إعمار المكان الخالي من البشر.

وخلوّ الجزيرة من البشر مجرّد حيلة لإظهار قدرة كروزو، الذي يمكن أن نسميه، بحسب منطق الرواية، ومنطق الروائي: المستعمِر. ولا توجد للكلمة أيّ دلالة سيّئة تتضمن المعاني التي نفهمها منها نحن، بل بالعكس، إنّ وجود روبنسون كروزو في تلك الجزيرة النائية يُعيد إعمارها، يبني من المغارة بيتاً، ومن الشجر سوراً، ويجعل من الماعز البرّي شبه المتوحّش حيواناً أليفاً. وفي كلّ مرّة من تلك المرّات التي يُحدّثنا فيها عن أعماله، ينتدب نفسه (حرفياً هنا، إذ أنّ العبارة ستكون مبكرة للغاية، في رسم صورة المستعمِر عن نفسه، وعن رسالته في الانتداب التي ظهرت بلا أيّ حياء في القرن العشرين، وفي أروقة العالَم، وهي صورة يُصدّقها البطل إلى أبعد الحدود) لإعمار الجزيرة، ولتأديب المتوحّشين الذين يأكلون لحوم البشر في احتفالات طقسية غريبة، إلى أن يهاجمهم ويرغمهم على الفرار.

ينتدب كروزو نفسه لإعمار الجزيرة ولتأديب "المتوحّشين"

ومغامرته في السرد الروائي تبدو "هوليوودية" مبكرة، يصطاد أحد الضحايا حيّاً، ويُحضره معه إلى المقرّ المحصَّن الذي يعيش فيه. ستبدأ منذ تلك اللحظة مهمّة تمدين المتوحّش. الغريب أنّ كلّ المواقع التي تلخّص الرواية، تؤكّد على هذه الصفات: المتحضّر مقابل المتوحّش. لا تعتني بكون كروزو نفسه مجرماً، أو بأنّ المهمّة الأصلية التي جاء من أجلها إنّما كانت "بعثة" (هذه هي الترجمة العربية للمصطلح الغربي الذي يروي سيرة كروزو، من أجل جلب العبيد من أفريقيا). تستخدم الملخصّات الغربية التي تعرض الرواية كلمة العبيد، فالأفارقة هُم "عبيد" قبل أن تختطفهم سفن القراصنة والتجّار، والمتحضّر لا يُلام على حضوره لأخذهم، واستخدامهم، فهذه واحدة من مهام الحضارة، ولأنّه يطمع في سعر أقلّ، لم ينتظر في مزرعته أولئك الذين سيجلبون له العبيد إليها.

يَنتصر المستعمِر في النهاية على المكان، ويترك بديلاً له فيها ثلّةً من رجال العصابات المنفيّين، ليديروا شؤونها على طريقتهم، دون أن يُعنى بتاتاً بمصير سكّانها الأصليّين.

يُصفّق النقاد في الغرب للشخصية التي عبّرت عن تطلّعات البرجوازية الغربية في لحظات ولادتها، وينسون غالباً جرائمها، وتأسيسها لروح المستعمِر الذي اجتاح العالم.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون