روبرتو سافيانو.. التغيير صرخة

06 يناير 2021
روبرتو سافيانو أثناء تقديم كتابه "لا وجود لسيارات أُجرة في البحر" بميلانو عام 2019 (Getty)
+ الخط -

يرتبط اسم روبرتو سافيانو، في البانوراما الأدبية الإيطالية، بتحقيقاته الصحافية التي هزّت بقوة البيئة الإجرامية لعصابات الكامورّا في نابولي ومقاطعة كامبانيا بشكل عام، ممّا فرض عليه العيش تحت الحراسة المشددة. إلّا أنه لا يبخل في الاستمرار في أداء عمله، واضعاً ثقته في مؤسسات الدولة، وقبل كل شيء في الحقيقة التي يسعى لإبرازها. البحث عن الحقيقة هو على وجه التحديد هدفُ أحدث أعماله الأدبية: "غريدالو" ("اصرخها" أو "قلها بصوت مرتفع") الذي صدر عن دار نشر "بومبياني" في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.

الكتاب الجديد يبدأ بمقدمة طويلة يسرد فيها سافيانو جزءاً من حياته عندما كان يرتاد مدرسة أرماندو دياز الثانوية في مدينة كازيرتا، مسقط رأسه، وهي بدورها أحد معاقل "الكامورّا". يخاطب سافيانو الطفل الذي يخرج من المدرسة، كما لو كان شخصاً آخر، ويحاول تحذيره من الأخطار والعثرات التي يمكن أن تضعها الحياة على طريقه، ويلفت انتباهه منذ البداية إلى أن الأمل يمكن أن يتحوّل إلى فخّ قاتل.

والأمل، في نظر سافيانو، ليس انتصاراً محتملاً للخير، بل أن نكون قادرين على سرد الجراح، أن نجعل ما يحدث موضوع حديثنا. الأمل هو أن نمنح القارئ الشعور بالقدرة على الدخول في عمق القصص، وإلّا فإن صداها لن يتردّد إلا على هوامش ذاتِه، بينما ينبغي له أن يلامس مركز وجوده. والأمل أيضاً دعوة لئلا نعتاد على قواعد اللعبة التي يفرضها الآخرون.

لا يكتفي سافيانو بترسيخ هذه الافتراضية، بل يرسم خريطة لها، تمتد عبر اثنتي عشرة شخصية أثرت، بطريقة ما، في تحديد مقوّمات وجودنا. وينظر إلى مكونات وخلفيات كل قصة من قصص هذه الشخصيات، لا كحدث صحافي يستهلكه الإعلام في ساعات أو بضعة أيام، بل كنقطة انطلاق متجددة، ذلك أن الاستبداد لا ينتهي بصرخة، ولا يمكن للعدل أن يتحقق بالشعارات الفارغة. الأمل يبدأ من أنفسنا، وعبر الآخرين.

يستحضر جوردانو برونو وآنا أخماتوفا وجمال خاشقجي

ليس من المستغرب أن يعود روبرتو سافيانو، في هذه الفترة المضطربة، ليجعل صوته مسموعاً، بل يصرخ عبر قصص حول شخصيات مشهورة، يعالج فيها قضايا السلطة، والدعاية، وكيف يمكن للناس العاديين أن يجعلوا أصواتهم مسموعة، أو كيف لا يتخلون عنها على الأقل.

يتوقف المؤلّف أمام المدرسة التي ارتادها حتى سن السادسة عشرة، ويرى هناك الصبي الذي كان، ذاك الذي ما يزال أمامه مستقبل بحاله يتخيّله. يعرف أن هذا الولد وحيد وأن طريقه لن تكون سهلة. يتمنى أن يستطيع مساعدته، لكن لا يُسمح له بذلك. ومع ذلك، يمكنه أن يجمع حوله بعض رفاق السفر الذين يوجهونه ويبدّدون جزءاً من وحدته، لأن مصائرنا الفردية تشكل، معاً، المغامرة الوحيدة العظيمة في تاريخ البشرية.

هيباتيا، جوردانو برونو، آنا أخماتوفا، روبرت كابا، جين سيبرغ، مارتن لوثر كينج، فرانشيسكا كابريني، جمال خاشقجي يمثلون على ما بينهم من فوارق بعضاً من هؤلاء الرفاق. من بين هؤلاء شخصيات مفاجئة، مثل المصارع هولك هوغان، وجوزيف غوبلز، وجورج فلويد، ونساء ورجال تكشف قصصهم - بإصرار الصحافي الاستقصائي - عن ديناميات خفية وخطيرة، وتطرح أسئلة لا مفرّ منها.

لكن ماذا علينا أن نصرخ؟ أن نصرخ فقط لنكون من الغاضبين، لنثبت وجودنا؟ أن نلفظ الشتائم التي يستحقها هذا الواقع؟ لا. لأن هذه الصفحات تخبرنا عن أولئك الذين رفعوا أصواتهم من أجل التغيير، من أجل الدفاع عن حقيقة هشة. علينا أن نصرخ لأننا نشعر بأن الأمر لا يتعلق بإعادة اللعبة إلى نقطة البداية، بل لنقلب قواعدها. فبفضل صدق وشجاعة كل واحد منا، يمكن للعالم أن يتغير حقاً.

نقد وكشف للديناميات التي تهيمن على وسائل التواصل

هيباتيا، عالمة الرياضيات والفلكية والفيلسوفة اليونانية القديمة، ممثلة الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، التي عاشت في مصر الرومانية، تلقي درساً في الميدان. نظرها يصل إلينا مباشرة، ولا ترتبك حتى عندما تكالب عليها الرهبان المسيحيون المتعصبون بشظايا الزجاج. روبرت كابا، المراسل الحربي، الذي يقترب من الواقع إلى حدٍّ يمكّنه من استيعاب كنهِه حتى دون التركيز عليه بعدسته: فقط من خلال العيش بشكل مباشر يمكننا أن نفهم ما يحيط بنا. الشاعرة آنا أخماتوفا تنتظر في البرد القارس أمام السجن حيث يُحبس ابنها. عندما تمسك القلم، أشعارها التي تمجد المقاومة والشجاعة تجعل ستالين يرتعد: "نحن نعرف ما يكمن اليوم في الميزان/ وما يحدث الآن/ حان أوان الشجاعة على ساعتنا/ والشجاعة لن تتخلى عنا". يموت جوردانو برونو بين ألسنة اللهب، لكن الحقيقة التي صرخها في وجه جلاديه تجعل هذا اللهب بلا جدوى إلى الأبد.

وبعكس هؤلاء، فإن المذيع الرواندي الذي يدخل المنازل بنكاته، هو الذي يبذر الكراهية الدموية، أما الجنرال المثقف والعاشق الولهان، غوبلز، فهو الذي يُعلّم هتلر أنه إذا كرّر كذبة مئة مرة، سينتهي الأمر بالآخرين إلى الاعتقاد بأنها حقيقة. 

روبيرتو

مع قدرة كتاباته على الجمع بين الملحمة ووضوح التفكير، يكشف سافيانو عن الديناميات الخطيرة التي تهيمن على جميع وسائل الاتصال، ومع ذلك نشعر في نهاية الكتاب وكأننا طالبٌ استعاد حيويته ولم يعد يكتفي بالأحلام والسخط.

لقد أصبحنا نعيش رهينة للمنافسة الشرسة بين الشركات العملاقة، وينتابنا الشعور بأننا بتنا مجرد مستهلكين تتلاعب بهم الدعايات المزيفة، فضلاً عن التلوث البيئي وبقية الآفات الناتجة عن السياسات الخاطئة. لكن هل هذا حقاً هو العالم الوحيد الممكن؟ ولماذا عندما يرفع شخص ما صوته لطلب العدالة، هناك دائماً من يلمّح إلى أنه يفعل ذلك لتحقيق مكاسب شخصية (كما جرى مع غريتا تونبرغ) ويسخر منه بإظهار تناقضاته؟ لا، ليس من الضروري أن تكون قدّيساً لتكافح. لا يمكن لضعفنا وتناقضاتنا أن يوقفانا، لأنهما لم يوقفا الرجال والنساء الذين يملأون صفحات كتاب سافيانو. هذا الكتاب خريطةٌ مكوّنة من قصص لا تريد أن تعلّمنا أيّ شيء، لكنها تتوقّع منا شيئاً واحداً فقط: أن نفتح أعيننا جيداً.


* كاتب سوري مقيم في ميلانو

المساهمون