رمضان دمشق.. رحلة دبلوماسي فرنسي إلى سورية في القرن التاسع عشر
كاتب وباحث وروائي فلسطيني، له عدة كتب في الأدب والبحث التاريخي والرحلة والتحقيق
خلال رحلته إلى الأراضي المقدسة، زار الدبلوماسي والرحالة الفرنسي الشهير يوجين دي فوغيه (1848 - 1910) مدينة دمشق في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1872 والذي صادف شهر رمضان، حيث كان في ذلك الزمن مقيماً في إسطنبول بصفته ملحقاً في السفارة الفرنسية، ولذلك حظي خلال زيارته باهتمام فوق عادي في المناطق التي مر بها، ومنها بيروت التي تحدثنا عنها في مقالة سابقة، ودمشق التي ستكون محور مقالتنا هذه.
ومعلوم أن رحلته هذه المعنونة بـ"بأيام السفر في سورية"؛ كانت فاتحة مسيرته في عالم النشر قبل أن ينشر بعدها رحلات أخرى إلى الأراضي المقدسة، وجبل آثوس، وكتاباً عن تاريخ الشرق.
بعد سنوات من الإقامة في إسطنبول، انتقل دي فوغيه إلى روسيا حيث تزوج هناك فتاة من إحدى الأسر النبيلة، ونشر كتابات عرّفت العالم آنذاك بالأدب الروسي، حيث ينسب لفوغيه الفضل في تسليط الضوء ولفت الانتباه إلى عدد من الأدباء الروس، أمثال ألكسندر بوشكين، ونيقولاي غوغول، وفيودور دوستويفسكي، وليو تولستوي.
وعلى عكس الانطباع الإيجابي العام الذي رافق وصفة مدينة بيروت، نجد المشاعر المتناقضة تسيطر عليه وهو يصف دمشق، ففي وقت يبدي إعجابه بالعديد من مظاهرها العمرانية، ويسلط الضوء على جماليات بيوتها وحتى طبيعتها التي تبدو مثل واحة وسط الصحراء، نجده يعود لنبرة التعالي والمقارنة بينها وبين المدن الأوروبية، متناسياً مسببات ذلك وارتباطها بالحال العامة للسلطنة العثمانية المنهارة في ذلك الوقت.
ومع ذلك، يمكن القول إن وصف دي فوغيه لمدينة دمشق غاية في الأهمية، كونه تلا المذبحة المروعة التي تعرض لها الحي المسيحي، وما خلفته من سحابة كآبة عمت المدينة ونخبها، وقبل النهضة القصيرة المرافقة لفترات الولاة الإصلاحيين، اعتباراً من الوالي صبحي باشا وأحمد حمدي باشا، وأخيراً أبو الدستور الوالي مدحت باشا، حيث شهدت فترة الأخير تفجر الطاقات الإبداعية الكامنة لدى نخب المدينة، قبل أن تتعرض تلك النخب للتضييق مجدداً، وتهاجر إلى القاهرة والإسكندرية ودمياط، بحثاً عن أجواء الحرية الوافرة في دولة الخديوي إسماعيل وابنه توفيق.
مدخل ساحر
وصل دي فوغيه إلى دمشق قادماً من بعلبك في البقاع يوم 21 تشرين الثاني/ نوفمبر، والذي يصادف 21 رمضان، وقد وصف لنا طريق وادي بردى بشكل ساحر وبلغة أدبية عالية، إذ قال: إن "نهر بردى ينحدر من منبعه إلى سهل دمشق، خلف سوق وادي بردى، ويتدفق على شكل سيل عميق تحت ستارة خضراء من الصفصاف وشجر الحور، يخترقها بين جدران صخرية متينة وعالية فيها العديد من المدافن الأثرية. هذه هي مقابر أبيلا القديمة. ثمة قطيع من الماعز الأسود يتسلق المسار الضيق الذي يؤدي إليها".
وحين يصل إلى قرية دمر يصفها بأنها تعج ببيوت أغنياء دمشق الريفية ذات الشرفات الملونة المبهجة، والمبنية في الوادي الضيق. ويقول إن الطريق تعج بالمسافرين والمارة الراكبين على الخيول المطهمة، وهم يرتدون ملابسهم الرائعة المطرزة بالذهب.
ويشير إلى عبور نهر بردى المضيق الأخير، عند الربوة، حيث تحوم النسور الكبيرة فوق أعشاشها، قبل أن يسير في المنبسط، حيث تمتد الحدائق والبساتين مثل أمواج البحر نحو المدينة، لتظهر له المآذن من البعيد.
ويمتدح دي فوغيه عالياً التخطيط الماهر للغاية للطريق الجديدة، إلى أن يصل إلى فناء اللوكاندة المرصوف بالرخام الأبيض والأسود، والمظلل بأشجار الليمون المثقلة بثمارها، والمطلة على بحرة كبيرة، والمقصود هنا فندق ديمتري كاره الواقع خارج سور المدينة.
صدمة الداخل
يدخل رحالتنا إلى المدينة، ويفاجأ بتهدور مستوى الخدمات فيها، ويحاول تفسير سبب إعجاب المشرقيين بدمشق كونها بالنسبة لتجار بغداد وبدو الجزيرة العربية تعد جنة، نظراً لافتقاد تلك البلاد الصحراوية للمياه والخضرة، ومع أنه لا ينكر أنها فعلاً جميلة بفضل أنهارها وخضرتها، إلا أنه يعود للمقارنة بينها وبين المدن الأوروبية.
ويقول: "بالنسبة للأشخاص الذين اعتادوا على العوز في كل شيء، يقتصر أفق رغباتهم على تلبية المتطلبات الأساسية، وخصوصاً الراحة في الظل، قرب ضفة الماء، بين فنجان من القهوة السوداء والنارجيلة، وبازارات دمشق، المترعة باللحوم والأسلحة والأقمشة والتبغ، وزوايا الدراويش وساحات المساجد الكبيرة، والديكورات الداخلية المبهرة. وهذه الأشياء تمثل بالنسبة لهم أقصى ما يحلمون به من رفاهية. ولكن كيف سيبدو الأمر نفسه بالنسبة لنا نحن الأوروبيين، الذين أكرمتنا الطبيعة وعملنا عليها لعدة قرون.. ولدينا الحضارة المتقدمة بما فيها من الأطعمة الشهية؟".
ويقول إن مدن أوروبا العظيمة تعج بالحدائق والغابات والأنهار، وإنه حتى مدن أوروبا الريفية الصغيرة تبدو أكثر رفاهية من دمشق التي يسميها ساخراً "ملكة الصحراء". ويردف بأن غالبية الشرقيين يتخلفون ثلاثة أو أربعة قرون عن الأوروبيين، حيث يقول إن وضع الشرقيين حالياً يمكن مقارنته بوضع الأوروبيين في العصور الوسطى المظلمة، ولكنه يعود ليؤكد مكانة دمشق في العصور القديمة من خلال نصوص الكتاب المقدس ووصف بعض الرحالة الآخرين الذين رأوا أنها مدينة نبيلة وقديمة، بل هي أقدم مدن العالم بحسب النصوص الماسورية للكتاب المقدس.
مسجد دمشق
ويبدي دي فوغيه إعجابه الشديد بمسجد دمشق الكبير، ويزعم أنه حافظ على شكل الكاتدرائية المسيحية، على عكس مساجد القاهرة كما يقول. ويضيف: "يوجد هنا الفناء على شكل مستطيل، محاط من ثلاث جهات برواق به صف من الأقواس، والأعمدة كلها تقريبًا من الرخام الثمين، ذات تيجان بيزنطية ثقيلة هي المتبقية من البازيليكا القديمة، التي ربما بني المسجد على نفس موقعها. في وسط الفناء قبة تظلل نافورة. في المصلى ثمة قبة مزدانة تحتوي، بحسب سكان دمشق، على قبر القديس يوحنا المعمدان. كانت الكنيسة المسيحية مكرسة بالفعل له في السابق. على جدران المسجد، فسيفساء قديمة جدًا ومحفوظة جيدًا. مآذن الزوايا الأربع، بغض النظر عن الأصل، تبدو قديمة ومزخرفة بشكل رصين بزخارف على شكل ورود رفيعة، وأرابيسك ومقرنصات، وتم بناء الكل على شكل مداميك متناوبة من الحجارة البيضاء والسوداء، مثل كاتدرائية سان لورينزو في جنوة".
روعة البيوت الدمشقية
رغم عباراته المتعالية، لا يستطيع دي فوغيه أن يتجاهل جمالية بناء المنزل الدمشقي حيث يقول: "الجاذبية الكبيرة والأصالة العظيمة لدمشق، التي يمكن أن تنافس باطمئنان شطحات الخيال، هي التصميمات الداخلية للمنازل. ظاهريًا تبدو جميع المنازل متشابهة من الخارج من حيث إعطائها انطباعاً فقيراً. وبعد أن يدخل المرء إلى أحد هذه المنازل عبر بوابة منخفضة تفضي إلى ممر مظلم ضيق، يفاجأ بما يرى، ولن يصدق أنه دخل إلى قصر".
ويضيف: "التصميم الداخلي لهذه المنازل هو نفسه تقريبًا في كل مكان: فناء مستطيل، مرصوف بالرخام، مع حوض تغذيه المياه الجارية، وسط أشجار النارنج، والليمون، والرمان. وجدران الحوض مبنية بحجارة ثمينة، وتعبق بالمكان رائحة أزهارهم وبريق ثمارهم. في جميع أنحاء الأفنية أو البيوت المكونة من طابق واحد؛ على أحد الجوانب، غرفة الاستقبال، السلملك، المكسوة بالزخارف الخشبية، والمرصوفة بالرخام".
ويلفت دي فوغيه النظر إلى المياه والنوافير في البيوت التي تصل إليها من مياه بردى الجارية التي تُوزّع بألف قناة في جميع أنحاء المدينة، ويقول إن هذه الأقنية تزود منازل الأثرياء بكثرة المياه التي تؤشر إلى فخامة فائقة في الشرق. أما الإيوان الذي يتوسط المنزل الدمشقي فيقول إنه يكون عادة مكسواً بالحرير المطرز بالفضة والذهب، ومقاعده مطعمة بالصدف الذي يزين الغرفة؛ والنوافذ مكسوة بالرخام والقيشاني، والخزف والأواني الفضية. ويتابع: "كنا نشعر بنشوة خاصة ونحن نتأمل المشغولات الخشبية والسقوف، المصنوعة بأناقة وتألق لا مثيل لهما، أحيانًا بعوارض بارزة، مطلية ومذهبة، وأحيانًا بخزائن جوفاء حيث صنعها النجارون الماهرون من خشب الأرز والجميز، وزينوها بالأرابيسك، بألوان رصينة وخافتة، معززة بدرجات الذهبي. يمكن للطلاء والألوان الزيتية وحدها أن تخلق انطباعًا عن تلك الأسقف الدمشقية، بشكل ينافس الأعمال الخشبية المنحوتة في عصر النهضة لدينا".
ويمتدح رحالتنا استقبال أسياد هذه القصور اللطيف والمهذب: "إنهم يكرموننا بشكل متواضع، كما هو متوقع من الأصدقاء: دون إزعاجنا بتدفق الكلمات التي سيتكلفها الأوروبيون للترحيب بضيوفهم. يتركوننا نفكر في ثرواتهم بصمت، بينما نتذوق القهوة ومربى الورد، والأشربة، والشيشة التي يقدمها لنا العبيد وهم يضعون أيديهم على قلوبهم".
ويغمز دي فوغيه من قناة أثرياء مدينة دمشق اليهود، ويسخر من المزاوجة الحديثة بين الأثاث والزينات الأوروبية المحشورة في بيوتهم من دون ذوق. ويقول إنهم الوحيدون الذين يبنون البيوت الفخمة في الفترة الحالية بسبب تجارتهم بالألماس.
الأسواق في رمضان
يصف دي فوغيه حركة أسواق دمشق بقوله إنها حاشدة بالناس دون انقطاع، ولكنه يشير إلى غياب التنوع، "فباستثناء قلة من الفرس وقليل من اليهود، لا يزال الكثرة من الجنس العربي في ثيابهم التقليدية يرفلون في المدينة، وثمة شيخ درزي نبيل ومهيب يرتدي عباءة منسوجة بالذهب. وهناك عدد كبير من تجار بغداد، وقافلة إبل مليئة بالسجاد تعبر تحت الباب الهائل لخان أسعد باشا الجميل، والذي بني في القرن السابع عشر بأسلوب مغاربي (؟)".
ويشير إلى وجود "محلات في هذا الخان للمسيحيين، الأرثوذوكس والموارنة، ودكاكين للأقمشة الأوروبية، يبيع المسلمون فيها المشمش المجفف، والحلويات الشهيرة، والأثاث المطعّم، والفراء، والأسلحة".
ويقدم دي فوغيه وصفاً لسهرات رمضانية في أسواق المدينة حيث شاهد عرضاً مشهدياً في خان أسعد باشا، هو على الأرجح أحد عروض أبو خليل القباني المسرحية الغنائية، من دون أن يستطرد، حيث يقول: "في المساء، كنا نذهب مع الناس إلى المقاهي التي يقصدها الجميع في ليالي رمضان. وهي صالات كبيرة تضيؤها قناديل معلقة على الجدران وتبث دخانها إلى السقف المحمول على قناطر منخفضة. وقد وضعت على الأرض الطينية حُصُر وكراسيّ صغيرة للعامة من الناس، بينما يجلس النبلاء وعلية القوم في مكان مرتفع فوق منصة دائرية تعلو قدمين أو ثلاثة عن الأرض. والجميع يدخن الغليون بصمت، وهو مكون من قصبة رُكبت بزاوية حادة في بيضة مصنوعة من المعدن أو الخشب الأسود، ويشربون معها عدداً لا حصر له من أقداح القهوة، بينما يتابع هواة العروض الأحداث والحركات الساخرة لعدد من "الكركوزات" المنتشرين في زوايا الصالة، بتعليقاتهم ونكاتهم البذيئة. ويستمع محبو الموسيقى إلى فرقة موحدة مكونة من دربكة وشيء يشبه الربابة، وآلة مكونة من عدة خيوط مشدودة إلى طاولة خشبية (القانون)، تعيد وتكرر إلى ما لا نهاية لحناً حزيناً عربياً وحيداً؛ يصاحبهم المطربون بطبقة موسيقيّة عالية (من الرأس) لا يملك سرّها سوى المشرقيّين، وهم يروون بنغمتهم الحزينة قصص الحب والحروب والمآسي التي شهدتها الصحراء".
في ضيافة الأمير عبد القادر
يزور دي فوغيه الأمير عبد القادر الجزائري في منزله ويصفه بقوله: "هو حريص بصرامة على تطبيق التعليمات الدينية، منعزل طوال شهر رمضان في قرية على بعد بضعة كيلومترات من دمشق (قرية دمر). لقد كان متفهما بما يكفي لتجاوز بعض عاداته الرمضانية من أجلنا، حيث استقبلنا في منزل بسيط للغاية. عبد القادر لديه رأس جميل، جاد ولطيف، بفضل شعره، المصبوغ بعناية، يبدو أصغر بكثير من عمره. يرحب بنا بحرارة، إنه يستفسر بشغف عن الشؤون الفرنسية والسياسة الأوروبية، ويطلب منا الاهتمام بابنه الذي حصل على الأمان بعد تعرضه للخطر في الانتفاضة الأخيرة. يتمتع عبد القادر بسلطة مطلقة على مواطنيه الجزائريين الكثيرين في سوريا. مكنه هذا الموقع من تقديم خدمة متأخرة قليلاً، ولكن مفيدة خلال مذابح عام 1860. بعد الأيام الدامية مباشرة، اعتكف الأمير مدة شهرين في المسجد الكبير، لتطهير نفسه من الفساد الذي أصاب المؤمنين".
ويشير رحالتنا إلى حالة الرعب التي كانت مسيطرة على المسيحيين في ذلك الوقت، فأقل شائعة يمكن أن تجعل الناس يحزمون حقائبهم ويستعدون للفرار إلى بيروت. ويضيف: "ومع ذلك، لا يبدو أن هناك شعبًا أكثر هدوءًا وأسهل انقيادًا من هذا الشعب، خصوصاً عندما لا ينساق وراء تيار التعصب. أعمال العنف نادرة جدًا، إنه لأمر مدهش لنا أن نرى المرافقين لنا يجلدون المارة المسلحين لتوسيع الطريق أمامنا. هل يمكننا رؤية أجنبي يمشي في شوارعنا ويضرب المارة بسوط! هل الشعور بالكرامة الإنسانية عندهم أقل تطوراً منه بيننا؟ ومع ذلك، الشرقي لديه احترام سلبي ومطلق للسلطة بجميع أشكالها، اعتاد على رؤيتها تمارس فقط من قبل أولئك الذين يمكنهم الاعتماد على القوة، فهو لا يبحث عن مصدرها، ولكنه ينحني أمامها".