رفعت العرعير شاعراً وشهيداً... من أجل أن تحكي قصّتي

11 ديسمبر 2023
الشهيد رفعت العرعير (يسار الصورة) مع طلّابه وأصدقائه
+ الخط -

"الرجل الذي أنا عليه اليوم، إنّما بسبب القِصص التي روتها لي أُمّي وجدّتي"، بهذه الكلمات تحدّث الأكاديمي والشاعر والمُترجم الفلسطيني رفعت العرعير، في لقاء مصوَّر أُجري معه عام 2015، مُعبِّراً عن أهمية المرويّات الشفوية في خلق سرديّةٍ مُقاوِمة وذاكرة جمعية لمواجهة الاستعمار الصهيوني وأكاذيبه.

ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي في الثامن من تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، سخّر العرعير، الذي استشهد ليلة الخميس إلى الجمعة الماضيين في بيت شقيقته مع ثمانية من أفراد عائلته، كلّ طاقته لإيصال الصورة الحقيقية عن الإبادة الجماعية التي ترتكبها "إسرائيل" في غزّة، حيث نشر بالإنكليزية، عبر حسابه على "إكس" (تويتر سابقاً)، تقارير حول المجازر الصهيونية والانتهاكات الإنسانية لجيش الاحتلال.

إن كان لا بدّ من أن أموت فليأتِ موتي بالأمل، فليصبح حكاية

وفي مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر، دمّرت غارات الاحتلال منزل الشاعر ومكتبته التي جمعها عبر ثلاثين عاماً، فلجأ إلى إحدى المدارس، وهناك بدأ يتلقّى تهديدات بالقتل، حسب مؤسّس ورئيس "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" في جنيف، رامي عبده، الذي كتب عبر حسابه على "منصة إكس"، أنّ العرعير قد تلقّى اتصالات هاتفية تتضمّن تهديدات بالقتل، من قبل المُخابرات الإسرائيلية، ما دفعه إلى مغادرة المدرسة التي لجأ إليها، والانتقال إلى منزل شقيقته حيث استشهد.

كان العرعير حريصاً، من خلال نشاطه الأدبي والاجتماعي، على إظهار الوجه الحقيقي للحياة في غزّة، وفضْحِ جرائم الحصار والحروب الإسرائيلية بالتوثيق والكتابة والنشر. وفي مقابلاته الأخيرة، عبّر عن رفضه الخروج من غزّة، قائلاً: "نعلم جيّداً أنّ الوضع مُظلم جدّاً، ولكن سنبقى في غزّة، وليس لدينا شيءٌ نخسره... أنا أكاديمي وقلمُ السبّورة أصلَبُ ما في بيتي، وإذا هاجم جنود الاحتلال بيتي، فإنّني سأُلقي عليهم القلم ولو كان آخر شيء أفعله".

وُلد الشاعر الشهيد في حيّ الشجاعية شرقَي مدينة غزّة عام 1979، وحصل على بكالوريوس في اللغة الإنكليزية من "الجامعة الإسلامية" فيها عام 2001، ثمّ شهادة الماجستير في الأدب المُقارن من "جامعة لندن" عام 2007، ثم أكمل الدكتوراه في "جامعة بوترا" بماليزيا، قبل أن يعمل أستاذاً للأدب الإنكليزي في "الجامعة الإسلامية"، حيث عرّف طلّابه فيها بطرائق الكتابة الإبداعية، وانشغل معهم بإنتاجات أبرز أعلام الأدب في لغة شكسبير.

لكنّ وظيفة أُخرى للأدب شغلت العرعير أبعد من أسوار الأكاديميا، ومن هُنا، نراه يُقدّم لمدوّنته الإلكترونية "هذه غزّة"، بكلمات يقول فيها: "لئِن كانت الحركة الصهيونية قد تمكّنت بالقول والكتابة من احتلال فلسطين، قبل وقت طويل من الغزو الفعلي، الذي انتهى باحتلال كامل الأرض وقتل وتهجير الملايين من المدنيّين الفلسطينيّين العزّل. فإنّنا قرّرنا أن نكتب مرّة أُخرى، وأن نسعى إلى حشد الجهود والأقلام وجَمْع كلّ ما هو موجود من مواد تُساعد على تعزيز قضيّتنا لتنوير أنفسنا وجميع شعوب العالم".

تلقّى تهديدات بالقتل من مخابرات الاحتلال قبل اغتياله

أثمرت هذه الجهود، بالفعل، عام 2015، حين نشر العرعير كتاباً مُشترَكاً أشرف على تحريره وكتب إحدى قصصه، وحمل عنوان "غزّة تردّ بالكتابة: قصصٌ قصيرة من كُتّاب شباب" (صدر بالإنكليزية عن "دجست وورلد بوكس")، وتضمّن خمس عشرة قصّة لـ أصوات فلسطينية جديدة في العشرينيات من العُمر، تحدّث كلّ منها عن تجربته مع الحرب الهمجيّة التي شنّتها "إسرائيل" في أواخر عام 2008، واستمرّت حتى الثامن عشر من كانون الثاني/ يناير 2009.

لم يكُن الكِتاب، في جوهره، مُجرّد نصوص مجموعة تحت ثيمة الحرب ومقاومة الإجرام الإسرائيلي، بل محاولة لخَلْق جيلٍ من الكتّاب الفلسطينيّين يستطيع أن يتفاعل أدبيّاً مع الحدَث العام، وأن يستنهض عوامل مثل الذاكرة والتجربة الشخصية اللتين كانتا مُؤسِّستين في هذه القصص، وهذه الأدوات تُعبّر بشكل ما عن رؤية الشاعر الشهيد نفسه وتصوُّره لعلاقة الأدب بالقضية الفلسطينية.

كما حرّر مع الكاتبة الفلسطينية ليلى الحدّاد (1978) كتاب "غزّة غير صامتة" (2015) الذي ضمّ مجموعة من المقالات لكتّاب فلسطينيين وأجانب مُهتمّين بالشأن الفلسطيني، وتناولوا حرب 2014، التي استشهد فيها أحد إخوة العرعير. وقد رصد المشاركون في الكتاب جوانب مختلفة من جرائم الاحتلال الإسرائيلي، واحتوى مساهمات وقّعها: رشيد الخالدي، ورمزي بارود وإيمان محمد وريتشارد فالك وبلال دبور وحاتم كناعنة وآخرون.

وفي 2015، كان العرعير من بين المُساهمِين في إنشاء مُبادرة "لسنا أرقاماً"، التي تسعى لتوثيق حياة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، بعيداً عن ربطها بخطاب الإحصاءات التي تجعل من تجارب الناس المريرة مجرّد أرقام. ضمّت المبادرة في صفوفها عدداً من الكتّاب الغزّيين الشباب الذين عبّروا عن واقع الحياة تحت وطأة الحصار والحرب، من بينهم الكاتب الشابّ يوسف دوّاس، الذي نشط فيها بمقالاته وكتاباته، وكان أيضاً أحد شهداء العدوان الجاري، حين استهدفت منزله غارة إسرائيلية في الرابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.

عبّر في عدد من مقابلاته الأخيرة عن رفضه الخروج من غزّة

خلال العام الماضي، شارك العرعير في كتاب "ضوء في غزّة: كتاباتٌ وُلدت من نار"، الذي صدر عن "منشورات جامعة هارفارد". في نصّ بعنوان "غزّة تتساءل: متى يمّر كلّ هذا؟"، كتب: "سوف يمرّ، وما زلت آملُ. سوف يمرّ، وأظلّ أقول. في بعض الأحيان أعني ذلك، وفي أُخرى لا أفعل. وبينما تستمرّ غزة في التلهُّف للحياة، فإنّنا نكافح من أجل أن يمرّ، وليس لدينا خيار سوى النضال ورواية قصصها، من أجل فلسطين".

في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر، كتب رفعت العرعير قصيدة بالإنكليزية، وثبّتها في أعلى حسابه على "إكس"، يقول فيها:

إن كان لا بدّ أن أموت
فعليك أن تعيش أنت
من أجل أن تحكي قصّتي
وتبيع كلَّ أشيائي
وتشتري قماشةً وعُصباً
(ولتكن بيضاء طويلة)
حتى يرى طفلٌ في مكان ما من غزّة
السماء في عينيه
مُنتظراً أباه الذي رحل في لمح البصر-
دون أن يُودّع أحداً،
ولا حتّى جسده
ولا حتّى نفسه -
يرى الطفل الطائرة الورقية، طائرتي
التي صنعتَها، تُحلّق عالياً
ويظنّ للحظة أن في السماء ملاكاً،
يُعيد الحبّ،
إن كان لا بدّ أن أموت
فليأتِ موتي بالأمل
فليصبح حكاية.

المساهمون