في نحو منتصف القرن الماضي، قال المثقّف والروائي الفرنسي الكبير أندريه مالرو عن القرن الواحد والعشرين: "إمّا أن يكون القرن القادم دينيّاً، أو لا يكون"، بمعنى نهاية العالم. كانت نبوءته في عزّ الصعود اليساري في العالم، بعد انقسام أوروبا إلى دول اشتراكية ودول تبنّت الرأسمالية، وبدايات التحاق بلدان العالم الثالث بالعالم الاشتراكي، حتى بدا كأنّ التمدّد الروسي لن يقف عند حد، رافقه انحسار للأديان، إلى حد منع المؤمنين من مزاولة شعائر أديانهم.
باتت التوقّعات بأنّ الشيوعية على وشك أن تصبح دين المستقبل، بينما كان العالم الرأسمالي غير متحمّس لبعث الدين من غفوته، وإبقائه حبيس دُور العبادة لن يقدّم شيئاً لرأسمالية اختارت المادة لا الروح، وإن استعملته لاستنهاض الشعوب المتدينة ضد الإلحاد الشيوعي. فالحداثة الغربية كانت على تضاد مع الشمولية الستالينية، فجرى التلويح بالفردية والديمقراطية، والدعوة إلى الحرية كدين لا تنازُل عنه.
لم ينته القرن العشرون إلّا وقد باتت نبوءة مالرو على وشك التحقّق بسقوط الاتحاد السوفييتي، وتفكّك الاشتراكيات الأوروبية، لعبت فيها الكنيسة دوراً فعّالاً، مع هزيمة الروس في أفغانستان على أيدي المجاهدين الإسلاميين. لقد جاء دور الدين لإحداث تلك الردّة نحو دنيا تحتل فيها الروحانيات نصيباً يسد النقص لدى البشر. أظهرت الرأسمالية سرورها، سينام العالم على أحلام الآخرة، بينما يتفرّغون للدنيويات الأرضية.
كأنّ الحضارة ستستعيد حروبها الصغيرة ريثما تبدأ الكبيرة
بداية القرن الواحد والعشرين، مع غزوة "القاعدة" لبرج التجارة الدولي في نيويورك، انتزع الدين المبادرة، جاء مسلّحاً، الدين سيدمّر العالم، تحت دعوى الإرهاب، وجرى الاعتقاد بأنه لو استطاعت "القاعدة" الحصول على السلاح النووي، فلن يبقى للقرن الحالي وجود مع الدين أو من دونه.
وريثما يُصلح الدين من أحواله، وينفي عن نفسه شبهات أسهَم بترويجها العالم الرأسمالي، من دافع حاجته إلى عدوّ، كان الدين لقمة سائغة، لن يدعه، إلّا بعدما يجد عدوّاً آخر، كانت الصين الآخذة في مزاحمته على اقتسام العالم مؤهّلة له، إن لم يكن روسيا الباحثة عن دور، وجدته مؤخّراً في حربها مع أوكرانيا.
مع عدم اتضاح مصير الحضارة في ظلّ رأسمالية متوحّشة، وأديان متطرّفة لو أُتيح لها التعبير عمّا تنوي فعله، قد تكون أكثر ظلاماً، وربما توحّشاً، جرت مناقشات كانت حصيلتها "القرن الواحد والعشرون سيكون أخلاقياً، أو لا يكون"، وكان بالدعوة إلى أخلاق علمانية لا تُحيل إلى الدين، أخلاق من دون فضيلة، وغير عقلانية، لا علاقة لها بالخير والشر المتعارف عليهما، وإنما في ابتداع خير وشر محرّرَين من قيود الأخلاق القديمة، بخصوصية خاضعة للمتعة والهوى.
كانت الأخلاق على هذه الشاكلة على انسجام مع التغوّل الرأسمالي الصاعد في الغرب والبلدان التي ودّعت الشيوعية قبل عقود مثل روسيا والصين، وانتهجت الخط الرأسمالي مع ملحقاته السيئة، فالمافيا وجدت بيئة خصبة في الفساد الذي أعقب تحلّل روسيا، كذلك في الصين ظهرت طبقة من رجال الأعمال تمتلك ثروات هائلة، أغلبهم من الحزب الحاكم أو على صلة به، بسواعد رأسمالية نشطة تنافس الأميركان على الاستثمار، حتى في أوروبا مجالهم الحيوي. لم يعد الصراع تحت غطاء أيديولوجي، بات تنافساً جشعاً سافراً، يحلّل النهب الدولي، كشف عن شرهه في محاولات الاستيلاء على أسواق التجارة ومنابع الثروات.
من خلال هذا المشهد، ما الذي سيحلّ بالقرن الواحد والعشرين، بالأحرى إلى أين ستمضي الحضارة؟ بدا وكأنّها ستستعيد حروبها الصغيرة، ريثما تبدأ الكبيرة، بالتقاتل فوق أراضي الآخرين، ريثما تبدأ حرب الدول العظمى، هل يضبطها السلاح النووي، أم يُفلت لها العقال؟
لم يعد التساؤل مُجدياً فيما إذا كان القرن دينياً أو لم يكن، أخلاقياً أو لم يكن، وإنما في أنّ الدين والأخلاق ليسا المشكلة ولا الحل لها، وليس من ضرورة لتخضع للنقاش، فالعالم لا يُعنى بهما، سيكون على البشرية التفكير بمجرّد البقاء، الدين مثل الأخلاق، صحيح أنهما يساعدان، لكنهما رفاهية لا تتوفّر ولا تجدي في عالم لا يفكر. السؤال: هل البشر جادّون في التفكير بمصير الإنسانية؟
* روائي من سورية