طيلة ستّة عقود، لم تتوقّف تجربة المؤرّخ والناقد هانس بلتينغ عن تجديد نفسها وفتح النقاش، أو إعادة فتحه، حول العديد من الثيمات التي بدت لمؤرّخي الفن أشبه بمواضيع مغلقة، من فرط ما نوقشت، أو أنها بدت لهم بديهية ولا تحتاج إلى كثير من النقاش.
يوم الثلاثاء الماضي، العاشر من هذا الشهر، رحل هانس بلتينغ، في برلين، عن سبعة وثمانين عاماً، لتفقد ألمانيا واحداً من أبرز أنثروبولوجيي الصورة ومن أبرز المنظّرين حول الفن وتاريخه.
وتدين المكتبة الفنية للمنظّر الراحل ــ الذي وُلد عام 1935 في أندرناخ، قرب كوبلنتس ــ بالعديد من الأعمال الأساسية، التي ساعدت في فهم تاريخ الصورة ومكانتها في المجتمعات القديمة والمعاصرة، مثل "الصورة وجمهورها في العصر الوسيط" (1981)، و"الصورة والعبادة: تاريخ الصورة قبل عصر الفن" (1990)، و"الصورة الحقيقية: سؤال الصورة بوصفه سؤالاً حول الإيمان" (2005).
على أن أكثر كتب بلتينغ، ربما، حظوةً بالمقروئية كان "نهاية تاريخ الفن" (1983)، الذي يعود فيه إلى مسألة نهاية الفن المفتوحة منذ جاء بها هيغل، حيث يرى بلتينغ أن ما انتهى ليس الفن في حد ذاته، بل الفكرة التي شكّلناها عنه، أي تلك التي ترى إلى الفن بوصفه تاريخاً، وبوصفه تطوّراً منطقياً ومنظّماً للأساليب والأشكال.
ويرى الراحل أن ما نعرفه، منذ عقود، بديلاً عن هذه الرؤية، هو مشهدٌ فنّي مفتوح تتجاور فيه الأشكال والتوجّهات والأساليب دون تطوّر في اتجاه معيّن، وهو ما يحيجنا إلى قراءات متعدّدة تعدُّد هذه الفنون التي لم يعد ممكناً الإمساكُ بها بنظريةٍ واحدة.
بعد عمله هذا بأكثر من عقدين، سيعود بلتينغ بكتاب سيترك من خلاله بصمته على مجمل النقاشات المعاصرة حول الصورة، والحديث هُنا عن "نحو أنثروبولوجيا للصورة" (2004)، الذي تجاوز فيه النظرة الضيّقة الخاصّة بمؤرّخي الفن ليقترح قراءةً للذات الإنسانية بوصفها مكاناً تشكّل الصورةُ فيه حجرَ أساس، حيث "نقضي حياتنا مع الصور، ولا نفهم العالم إلّا من خلال الصور".