ظلّت صورة الكاتب المنشق عن النظام الشمولي في بلاده تهيمن على تجربة الروائي التشيكي ميلان كونديرا الذي رحل أمس الثلاثاء في باريس؛ حيث تركّز اهتمام النقّاد والصحافة في فرنسا، والغرب عموماً، على الأعمال المرتبطة بتلك المرحلة، ولم تعد كتاباته وشخصيته تلفت الأنظار في سنواته الأخيرة، كما كان في فترة سابقة.
كونديرا (1929 - 2023)، الذي سُحبت منه الجنسية التشيكية عام 1979، أي بعد أربع سنوات من مغادرته بلده، وأُعيدت إليه عام 2019، عبّر كثيراً عن غضبه من تحريف وسائل الإعلام لأحاديثه، ما جعله ينأى بنفسه عن الظهور، وكذلك كان منزعجاً من الكتابات التي أشارت إلى إخفائه جوانب من حياته أثناء عيشه في ظلّ نظام الرئيس التيشكوسلوفاكي غوستاف هوساك.
ورغم إصراره على مقاربة تجربته الروائية من منظور فنّي نقدي، إلّا أن الخلفيات السياسية بقيت حاضرة في تقييمه، دون إنكار أسلوبه المحمّل بأفكار فلسفية، وبنائه لشخصيات روائية مركّبة وتحتفظ بقدر من الغموض الذي يذكّر بشيء مماثل في حياته المبكّرة، عبر تصديره صورة مثالية حول مناهضته للشيوعية، بينما شكّكت رواياتٌ عديدة بها.
أصرّ على مقاربة تجربته فنياً، لكنّ الخلفيات السياسية بقيت حاضرة في قراءته
برع كونديرا في مزج أجواء مأساوية بروح كوميدية في تحليله للفرد الذي يحيا في أنظمة استبدادية. وإلى حدٍّ ما، لعبت هذه الكوميديا السوداء دورها في جذب القرّاء لرواياته، منذ روايته الأولى "المزحة" التي صدرت عام 1967، وجرى حظرها في بلاده حتى سقوط النظام الشيوعي فيها.
تُرجمت الرواية إلى العربية متأخّراً، مقارنة برواياته الأُخرى مثل "الحياة هي مكان آخر" و"خفّة الكائن التي لا تُحتمل" و"فالس الوداع"، وقد حمل العمل أساس أفكاره التي تمحورت حولها أعماله اللاحقة والمتعلقة بالذاكرة والنيسان، وخفّة الوجود وثقله، وما يسمّيه "الكيتش"، وكذلك مسائل الهوية وخلود الإنسان.
تجدر الإشارة إلى أنّ تلقّي كونديرا كان واسعاً في الثقافة العربية، حيث انتشرت ترجماته في التسعينيات، وجذبت كثيراً من القرّاء، بدليل إعادة إصدارها في طبعات عدّة، بالإضافة إلى نقل عدد من أعماله في ترجمات متعدّدة أيضاً.
كانت "خفّة الكائن التي لا تحتمل" من رواياته التي نالت شهرة واسعة، وتحوّلت إلى فيلم سينمائي أخرجه فيليب كوفمان عام 1988. وقد طرح كونديرا فيها مفهوم العَود الأبدي الذي استعاره من نيتشه من خلال فكرة التكرار في التاريخ، كما طرح تساؤلات حرجة حول الحبّ والوجود والألم.
أخفق كونديرا في بداية حياته بكتابة الشعر بعد نشر ثلاث مجموعات، وهو أمر آخر حرص على تجاهله بشكل كبير. وفي كتابته السردية، استفاد كثيراً من دراسته الأكاديمية للسيناريو والسينما، وكذلك الموسيقى، مثلما يتّضح في رواياته: "الضحك والنسيان" (1979)، و"الخلود" (1988)، و"البطء" (1995)، و"الجهل" (2000)، و"حفلة التفاهة" (2014)، ومجموعته القصصية "غراميات مرحة" (1963)، كما في تنظيراته النقدية في أكثر من كتاب، ولا سيما "فنّ الرواية" (1986).