رحيل لاتينكا بروفيتش.. ماذا يعني التغريد خارج السرب في البلقان؟

22 ديسمبر 2022
لاتينكا بروفيتش (مركز بلغراد الإعلامي)
+ الخط -

توفيت في الثاني عشر من هذا الشهر، ببلغراد، المؤرّخة الصربية لاتينكا بروفيتش (Latinka Perović) بعد أن بلغت التسعين وهي تغرّد خارج السرب البلقاني التقليدي، الذي لا يتجرّأ على معارضة السلطة القائمة سواء كانت اشتراكية أو قومية أو أوتوقراطية شعبوية تتزايد في المنطقة. ولأنها كذلك لم يفُتِ الجريدة الصربية المستقلّة "داناس"، التي تكافح في سبيل الحفاظ على ما بقي من استقلالية للصحافة الحرّة، أن تشير في يوم وفاتها إلى أن بروفيتش أصبحت مشهورة أكثر في الدول المجاورة لصربيا بسبب مؤلّفاتها ومواقفها التي تقدّم رؤية مختلفة عن صربيا، والتي لا تنسجم مع الرؤية التي تقدّمها السلطات الحاكمة فيها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية منذ تيتو وحتى ألكسندر فوتيتش ومرورا بسلوبودان ميلوشيفيتش.


من السياسة إلى الأكاديميا
في الواقع لم تكن بروفيتش مؤرّخة معروفة فقط، بل كانت سياسية صاعدة في شبابها وبرزت في مناصب قيادية حتى وُصفت بأنها من أهمّ النساء القياديات في صربيا بعد الحرب العالمية الثانية، إلى أن شملتها موجة "التطهير" التيتوية في مطلع سبعينيات القرن الماضي، فتخلّت عن أوهام إصلاح الحزب الحاكم، لتتفرغ لمتابعة دراساتها العليا وتعمل في "معهد التاريخ الصربي الحديث"، ما بين 1976 و1998. وكانت بروفيتش وُلدت في قلب صربيا القديمة (غراغويفاتس) في 4 تشرين الأول/ أكتوبر 1933، ودرست التاريخ في "جامعة بلغراد"، حيث انخرطت في الحياة السياسية، وانضمّت إلى الحزب الشيوعي اليوغسلافي. 

وفي سنّ السابعة والعشرين برزت بقوّة على رأس منظمة "المرأة المناهضة للفاشية" في صربيا، ثم أصبحت سكرتيرة الحزب الشيوعي في صربيا بين عامَي 1968 و1972، وعملت مع رئيس الحزب ماركو نيكزيتش على "لَبْرَلة" السياسة والاقتصاد، وهو ما تزامن مع "الربيع الكرواتي"، مما أدّى إلى تدخّل تيتو والقيام بحملة تطهير في عام 1972، جعلت بروفيتش تكتشف الوهم الذي عاشته مع "التسيير الذاتي"، وتتوجّه لمتابعة دراسة الدكتوراة في العلوم السياسية وتنضمّ إلى "معهد التاريخ الصربي الحديث" (1976)، حيث برزت فيه كمؤرّخة "خارج السرب" حتى تقاعُدها في عام 1998.

أبعدها تيتو عن الحزب الشيوعي لتمثيلها الفكر الليبرالي

كانت بروفيتش ترى في الخلاف الأيديولوجي بين ستالين وتيتو عام 1948: "فرصة للانفتاح في الاقتصاد وحتى التغيير في الحزب"، ولذلك مثّلت التيار "الليبرالي"، الذي برز خلال قيادة ماركو نيكزيتش للحزب الشيوعي في صربيا، حتى تولّت منصب سكرتيرة الحزب خلال 1968 - 1972، ولكنها اكتشفت مع موجة التطهير التي قادها تيتو ضد "التيار الليبرالي" في الحزب آنذاك "العقبة الأيديولوجية التي لم يمكن للحزب أن يتجاوزها، والتي أدّت بكلّ مَن حاول تجاوزها إلى أن يجد نفسه خارج الحزب".

ومن هنا توجّهت بقوة بعد تحرّرها من وهم لَبْرلة الحزب والاقتصاد ضمن "التسيير الذاتي"، إلى البحث في التاريخ الصربي خلال عملها في "معهد التاريخ الصربي الحديث"، لتعيد الاعتبار إلى البدايات الليبرالية في صربيا التي غطّتها الأحزاب الشعبوية التي حكمت صربيا لاحقاً: (الحزب الراديكالي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، والحزب الشيوعي في النصف الثاني للقرن العشرين)، والعلاقات الصربية - الروسية، والتحديث في صربيا، فأصدرت سلسلة من المؤلفات المرجعية، مثل "من المركزية إلى الفدرالية: الحزب الشيوعي اليوغسلافي والمسألة القومية"، و"انغلاق الدائرة: نتائج الانشقاق 1971 - 1972"، و"الصلات الثورية الصربية الروسية: إسهام في تاريخ الشعبوية في صربيا"، و"بين الفوضى والأوتوقراطية"، و"المجتمع الصربي في القرنين التاسع عشر والعشرين"، و"النخبة المسيطرة وغير المرغوبة: ملاحظات حول النخبة الثقافية والسياسية في صربيا خلال القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين"، وغيرها.


من تيتو إلى ميلوشيفيتش
ومن هنا تابعت بروفيتش بعد وفاة تيتو الشعبويات الجديدة في جمهوريات يوغسلافيا السابقة، التي برزت هذه المرّة باسم القومية لتطالب بمراجعة يوغسلافيا التيتوية لصالح مراكز قوة جديدة، ولم تقصّر في انتقاد سياسات سلوبودان ميلوشيفيتش الذي أدّى طموحه لـ"توحيد الصرب" داخل يوغسلافيا، إلى حروب ومجازر، وصولاً إلى حرب عام 1999، التي أصبحت بعدها صربيا "دولة منبوذة"، إلى أن نجحت المعارضة الليبرالية بقيادة زوران جينجيتش، بإرغام ميلوشيفيتش على الاستقالة.

كان تولّي جينجيتش رئاسة الحكومة في 2001، الذي سلّم ميلوشيفيتش لـ"محكمة جرائم الحرب في لاهاي"، أملاً كبيراً لبروفيتش في استعادة الليبرالية الصربية دورها في الحياة السياسية والثقافية، ولكنّ اغتيال جينجيتش في 12 آذار/ مارس 2003، من قبل الدولة الميلوشيفية العميقة، أدّى إلى صعود الشعبوية من جديد مع ألكسندر فوتشيتش وزير الإعلام في عهد ميلوشيفيتش، الذي أصبح رئيساً للوزراء ثم رئيساً للجمهورية. ولذلك اهتمّت وأصدرت مختارات من أعمال جينجيتش في خمسة مجلدات، لتبيّن ماذا خسرت صربيا من اغتيال هذا المُصلح الليبرالي، الذي كان يمكن أن يقود صربيا نحو مستقبل مختلف.

في غضون ذلك كان صوت بروفيتش يعلو في صربيا ويُسمَع في الدول المجاورة، وهي تنتقد السياسات القومية الشعبوية في بلغراد تُجاه الدول المجاورة التي أعلنت استقلالها عن يوغسلافيا. وفي هذا السياق، كانت أول من أدان المجزرة الجماعية المدبرة ضدّ المسلمين في سربرنيتيسا، من قبل جيش صرب البوسنة بقيادة راتكو ملاديتش في 1995، وسمّتها باسمها "جنوسايد" (إبادة)، بينما بقيتِ الحكومات الصربية ترفض توصيفها كذلك، بل إن الشارع المعبّأ بالسياسة الشعبوية بقي ينظر إلى راتكو ملاديتش باعتباره بطلاً وليس مجرم حرب. 

عُرِفت في صربيا بمواقفها النقدية تجاه سلطات بلادها 

كانت بروفيتش تعتبر أنه من الأولى بصربيا أن تُراجع نفسها بعد حرب 1999، وأن "تركّز على نفسها وعلى تطوّرها الاقتصادي والتعليمي والثقافي والصحي، والانفتاح على العالم وإقامة علاقات طبيعية مع الجيران بمن فيهم كوسوفو"، ولذلك تُعيد التوترات مع الدول المجاورة إلى أن القيادة الصربية "استمدّت أهدافها من الأساطير"، حتى أن الرئيس الصربي الحالي فوتشيتش لا يزال يعتبر كوسوفو "أرضا مقدسة" للصرب.

صحيح أن بروفيتش كسياسية ليبرالية، كسبت سمعة في صربيا، حين عملت على لَبْرلة السياسة والاقتصاد، وهي على رأس الحزب الشيوعي، حتى سقطت ضحية "التطهير" الذي قام به تيتو من فوق عام 1972. ولكنّ معارضتها لميلوشيفيتش، والسياسة الميلوشيفية التي انبعث في صربيا من جديد بعد اغتيال رئيس الحكومة الليبرالي جينجيتش، جعلتها تكسب سمعة جيّدة كمؤرّخة في الدول المجاورة. ولذلك نجد أنه بعد الإعلان عن وفاتها سارع سياسيون ومؤرّخون وممثّلون للمجتمع المدني في الدول المجاورة، إلى الإعراب عن حزنهم لوفاتها والإشادة بمواقفها الشجاعة.

ولكن السؤال الذي لم يطرحه هؤلاء: لماذا لا توجد مؤرّخة شجاعة مثل بروفيتش في الدول المجاورة لصربيا؟ مثل كرواتيا ومقدونيا الشمالية وكوسوفو وغيرها، تشتهر في صربيا بمواقفها النقدية تجاه السلطات في بلادها وتوصل رسالة، مفادُها أنه قد آن الأوان للخروج من كوابيس يوغسلافيا السابقة واعتبار كل شعب ضحية للآخرين، (الخطاب الذي يصبّ في مصلحة القيادات الأوتوقراطية الشعبوية المتزايدة في المنطقة)، والتطلّع بدلاً من ذلك، إلى الإصلاحات المطلوبة من تلك الدول، لكي تندرج معاً من جديد، في كيان واحد يريدها بمعاييره: الاتحاد الأوروبي.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون