في 11 آذار/ مارس الماضي، كان مُقرَّراً عرْضُ مخطوطٍ جزائري يعود إلى القرن السابع عشر للبيع في مزاد علني بمدينة فان غربيّ فرنسا. وربّما كانت العملية ستتمُّ وفق ما كان مُخطَّطاً لها، لولا أنّ منشوراً للصحافي الجزائري فُضيل أُورابح على حسابه في فيسبوك غيَّر مِن مسار القصّة.
قبل موعد المزاد بأيّام قليلة، نشر أورابح، وهو صحافي سابق في جريدة "المُجاهد"، قضى قرابة خمسة وعشرين عاماً في فرنسا قبل أن يعود إلى الجزائر ليستقّر في ولاية بجاية، مقالاً نبّه فيه إلى عمليه البَيع بالمزاد التي تعتزم دار "Ruellan Auction" إقامتها بقيمة ابتدائية لا تتجاوز 436 دولاراً، وأورد معلومات مفصَّلة عن المخطوط التاريخي النادر وصُوَراً له؛ حيث ذكر أنّه مؤلَّف في الفقه الشافعي وضعه الهادي أبو سرور العبادي عام 1620، بينما تُشير بيانات النَّسْخ إلى أنّ ناسخه يُدعى محمد بن قاسم بن عيسى بم محمد الغبريني الهادي، وأنّه انتهى من نسخه في السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر 1659.
وأُرفق المخطوط، وفق أورابح، بملاحظةٍ مكتوبة بخطٍّ من العُصور الوسطى، ورد فيها: "هذه المخطوطةُ الرائعة أُخذت من الحلفاء العرب للأمير عبد القادر الجزائري، عدوّ الفرنسيّين، في الخامس عشر من حزيران/ يونيو 1842، وقد أُحضرت إلى فرنسا في آب/ أغسطس من العام نفسه من قبل المُلازم لي ليوت بلانري، والذي أهداها في التاسع والعشرين من الشهر نفسه في باريس".
نُهب عام 1842 خلال غارة على موالين للأمير عبد القادر
عقّب أورابح أنّ المخطوط نُهب خلال غارة فرنسية نُفِّذت في منطقة تيسمسيلت، غربيّ الجزائر، في حزيران/ يونيو 1842، ثمّ نقلها الملازم بلانري إلى فرنسا بعد ذلك. في مُحاولة منه لتحديد موقع وتاريخ الغارة، يستند الصحافيُّ الجزائري إلى أرشيف صحيفة "Le Moniteur algérien"، التي ذكَرت في عددها الصادر بتاريخ الخامس من تمّوز/ يوليو 1842، أنّ رتلاً فرنسيّاً بقيادة الجنرال تيوديل شانغارنييه هاجم، قبل أيام قليلة من ذلك التاريخ، قبيلةً في تلك المنطقة، ما أسفر عن قتْلِ خمسين واحتجاز ثلاثة آلاف من أبنائها؛ بين رجال ونساء وأطفال، إضافةً إلى نهْب ممتلكاتهم. يُضيف أورابح بأنّ المخطوط المنهوب يُعيد إلى الذاكرة جريمةً استعمارية طاولها النسيان.
وسْط غياب أيّة ردّة فعل رسمية في الجزائر، أثار الخبرُ ردود فعلٍ كثيرة على مواقع التواصُل الجماعي؛ حيث ندَّد جزائريّون بإقدام دار المزادات الفرنسية على عرض المخطوط للبيع، داعين سُلطات بلادهم إلى التدخُّل لمنع إتمام العملية، بينما أطلق الصحافي الجزائري جمال زرّوق عريضةً توقيعات إلكترونية تُطالب بسحب المخطوط من البيع وإعادته إلى الجزائر، وهو ما انتهى بإعلان الدار تراجُعَها عن بيع المخطوط وتسليمَه للجزائر.
يذكُر الصحافيُّ والمُخرج الوثائقي الجزائري المُقيم في فرنسا، محمّد الزاوي، في حديث إلى "العربي الجديد"، أنَّ جمْعَ التوقيعات رافقته اتّصالات كثيرةٌ من قِبل جزائريّين بمُحافِظ البيع لمُطالبته بإيقاف العملية، مُضيفاً: "كنتُ من الذين تواصلوا مع المُحافِظ بغيةَ تصوير عملية البيع. رفض في البداية، لكنّه وافق حين طمأنتُه أنّ عملي سيكون صحافيّاً بحتاً. لكن، وبينما كنتُ أهمّ بقطع قرابة خمسمئة كيلومتر في اتجاه مدينة فان، اتّصل بي ليُعلمني بأنّ مؤسّسته أوقفت عملية البيع. لقد كان متوتّراً ومندهشاً لأنّه تلقّى مكالمات ورسائل كثيرة تعترض على البيع".
وبالموازاة مع إعلان الدار إلغاء عملية البيع، نقلت وسائل إعلام محلّية عن مسؤولٍ في الدار قوله بإنّه سيضمن تسليم المخطوط إلى القنصلية الجزائرية في مدينة نانت الفرنسية، حتى ينتهي به المطاف في أحد المتاحف الجزائرية. في الخامس من نيسان/ أبريل الجاري، أعلنت وزارة الخارجية الجزائرية عن استرجاع ما قالت إنّها "مخطوطة إسلامية نادرة يرجع تاريخها إلى عام 1659 استولت عليها السلطات الاستعمارية سنة 1842 بعد غارة للجيش الفرنسي ضدّ الأمير عبد القادر بأعالي جبال الونشريس"، مُضيفةً، في بيان، بأنّ "استرجاع هذه المخطوطة ذات القيمة التاريخية العالية والرمزية الكبيرة تمّ بفضل تظافُر جهود السلطات العمومية بتوجيهات مباشرة من رئيس الجمهورية السيّد عبد المجيد تبون، وأفراد جاليتنا بفرنسا الذين تجنّدوا بحسّ وطني عالٍ وحالوا دون بيع هذه المخطوطة في المزاد العلني".
بدأت مطالبات الاستعادة بمنشور للصحافي فُضيل أورابح
يُعلّق محمّد الزاوي على ذلك قائلاً: "سرّني كثيراً خبرُ استعادة المخطوط. لكنّني تأسّفتُ لكون البيان لا يُشير إلى صاحب المبادرة الحقيقي. لا أدري إنْ كان ثمّة مَن يلفت انتباههم إلى أنّ الفضل يرجع أوّلاً إلى فضيل أورابح، أم أنّنا لا نُعطي في الثقافة السياسية الرسمية اهتماماً للفرد؟ لقد تحدّث البيان بشكلٍ عام عن دور الجالية الجزائرية. لكن، حتى وإن كان لبعض أفراد الجالية دورٌ في الضغط من أجل استرجاع المخطوط، فإنّ هذا حدث بعد أن نبّه فضيل أورابح إلى الأمر؛ وهو يعيش بينكم في الجزائر".
ويضيف أنّ "أورابح من الصحافيّين الكبار الذين عانَوا المنفى والهجرة؛ وهو يُحبّ الأدب والموسيقى والبطاقات المصوَّرة، وله اهتمام كبير بالكتُب التاريخية، ويقضي جلّ وقته في البحث عن كنوز التراث الجزائري".
ليست هذه المرّةَ الأُولى التي تُعرَض فيها مخطوطاتٌ ومقتنياتٌ نهبها الفرنسيّون من الجزائر خلال الفترة الاستعمارية للبيع في مزادات علنية ببلدان غربية. لكنّ هذه واحدةٌ من المرّات القليلة التي يجري فيها إحباطُ محاولة بيع واحدة منها. حدث ذلك بفضل جهود فردية، في الوقت الذي يكتفي موظّفو بعضُ السفارات والقنصليات الجزائرية في الخارج بدور المتفرّج على بيع التراث الجزائري في مزادات أوروبية.
مع ذلك، سنقرأ في بيان وزارة الخارجية بأنّ "استرجاع هذه المخطوطة وإعادتها إلى أرض الوطن يندرج في إطار الجهود الحثيثة والمساعي المتواصلة التي ما فتئت تبذلها أعلى السلطات في البلاد لاستعادة كافّة التراث الجزائري المسلوب، حفاظاً على الذاكرة الوطنية وصونها".
البداية والنهاية
يُمكن القول إنّ الاستعمار الفرنسي للجزائر (1830 - 1962) بدأ باستهداف المكتبات؛ فقد استُبق بما سُمّي "البعثات الاستكشافية" التي جرى خلالها السطو على كثير من الكتب والمخطوطات، واستمرَّ ذلك بُعيَد الغزو؛ حيثُ استُهدفت المكتبات الخاصّة والعامّة خلال الحملات العسكرية. ومِن اللافت أنّ الاحتلال انتهى أيضاً بتدمير مكتبة، هي "مكتبة جامعة الجزائر"، التي أحرقها الفرنسيّون بعد ثلاثة أشهر من إبرام اتفاقية لوقف إطلاق النار!