إذا كانت الرواية تأريخٌ لحياة الإنسان بتجلّيات وجوده، حسب ميلان كونديرا في كتابه "فنُّ الرواية"، فإن جُلَّ أعمال الروائي اللبناني الياس خوري (1948)، تذهب عميقاً في هذا الفن. خاصة حين تتعلّق رواياته بتأريخ المعاناة الفلسطينية، وما تكتنفها من مفارقات وجودية يصعب سكبُها في إطار سردي متكامل، تبدأ به الروايات وتنتهي. فالحكاية الفلسطينية لم تنتهِ بعد، ولا يبدو أنها ستفعل في حياة صاحب الرواية وحياة أجيال النكبة المتعاقبة، وهي تُواصِل السير بخُطىً ثقيلة على طريق الجُلجلة لتفتدي كالمسيح العالم بأسره، وتغسل خطاياه بدروب آلامها التي لا تنتهي. هكذا تُوحي لنا ثلاثية "أولاد الغيتو"، والتي صدر الجزء الثالث والأخير منها حديثاً، عن "دار الآداب" وحمل عنوان "رجل يُشبهني".
تشكّل روايات الياس خوري التي تتناول النكبة الفلسطينية المستمرّة، جزءاً لا يُستهان به من الرواية الفلسطينية. فهي تُلامس الواقع الفلسطيني بواقعيّتها السحرية، إذ ترتكز على أحداثٍ واقعية وإنِ امتزجت بالتخييل. وتغوصُ عميقاً في فضح الوحشية العنصرية التي تمارسها "إسرائيل"، بوصفها نظام فصل عنصري يزداد وحشية تضاهي النازية بعنصريتها، حين يستعير تعبير "الغيتو" الذي كان يُطلَق على معتقلات اليهود في أوروبا.
وإنْ لم يغب الهمُّ الفلسطيني عن معظم روايات خوري، فإنّ شخوصاً أو أحداثاً امتزجت مع الهموم اللبنانية إبّان الحرب الطائفية. لكنْ، منذ روايته "باب الشمس" باتت الرواية الفلسطينية محور موضوع رواياته، ولتبلغَ الذروة مع ثلاثية "أولاد الغيتو". وإنْ كانت روايته "رجل يشبهني" هي ذروة الذروة في هذه الثلاثية، فلأنها تُدخِل القارئ في مناخ يتشابك فيه الماضي الذي لم يمض، والحاضر الذي لا يكفُّ عن الحدوث، وإذ يستحضر خوري شخصيّات رواياته السابقة في هذه الرواية لتواصل أقدارها، وتعيش تحوّلاتٍ درامية مُرعبة كشخصية خليل أيوب من "باب الشمس". لكن في "رجل يشبهني" تنتهي حياته باستشهاده في الصبانة أثناء حصار نابلس عام 2002، وبعد استشهاد ابنه يونس، يعيش في تلك اللحظات ألم فقدان الابن، ويُقاتل حتى النفس الأخير غير قادر على تحمّل فقدانه، وهو ألمٌ يعيشه الفلسطينيون والفلسطينيات في الحقيقة منذ النكبة وحتى يومنا هذا، وسيستمرّون في عيشه.
منذ "باب الشمس" والرواية الفلسطينية محور كتابات خوري
ظلّ يُطلق الرصاص على جنود الاحتلال، بعد أن احتمى بأكداس مكعّبات الصابون التي تحوّلت بعد استشهاده إلى أمواج تحيط بجسده الذي امتصّته الألوان. حين وجدته يُسرى آخر حبيباته، والتي أيقظت شمساً في داخله، ضمّته إلى صدرها وشعرت بالحليب يتدفّق من ثدييها، ضمّته أكثر، وقبّلته في جبينه وخرجت به.
من الصعب الإحاطة برواية "رجل يشبهني"، فهي لا تشبه أيّاً من روايات صاحبها، وإنْ تتغطّى بظلال هذه الروايات وهي تستعيد شخوصاً وأحداثاً تقتحم صفحات الرواية، وترسم خطّاً يتسلّل عبر "رجل يُشبهني"، في هذيان الكتابة السردية التي يختارها خوري.
بدءاً من العنوان وبحثنا أثناء القراءة عن ذلك "الرجل الذي يُشبهني"، أو يُشبه مَن؟ آدم دنون أم الياس خوري نفسه، أم ذلك الرجل الذي التقاه آدم في حُلمه ويُشبه والده حسن دنون (الذي ليس والده). فهو ابن شجرة الزيتون أو اللقيط، بحسب ما ورد في كتاب عودة الرنتيسي الأزرق، القسِّيس الذي روى عن غيتو العطش ومسيرة الموت في اللّد، تحدّث فيه عن رضيع وُجد عند شجرة الزيتون. بينما ما يعرفه آدم عن نفسه أن مأمون وجدَه رضيعاً، على صدر امرأة ميّتة عند جذع شجرة الزيتون. ففي حلمه رأى رجلاً يُشبه والدَه ويشبهُه هو في عشرينياته، مع أن والده ليس والده.
وهنا نتساءل عن المغزى من هذا البحث عن الرجل الذي يُشبهه، والذي يأمره بكتابة حكايته. الحكاية التي فاجأه سائق التاكسي حين قال له "الحكاية انتهت". فحين عاد من الجامعة خائباً، لأنه لم يتمكّن من لقاء داليا بعد عرضها لفيلمها، وتبيّن أن العرض كان قد جرى قبل أسبوع مضى وخسر آخِر أمل له بلقاء دالية واستعادة حبّه. وحين التفت إلى الوراء ورأى آدم ملامح السائق من خلال العتمة المبقّعة بالضوء، صرخ "أنت؟".
في "رجل يُشبهني" كأنما نحن أمام رواية كلّ شيء، وليس ما يكابده الفلسطينيون من وحشية الاحتلال. بل أمام تداعيات هذه النكبة المستمرّة، التي تجعل من الكاتب يعيش إشكالية الكتابة عنها. أيضاً التداعيات الفكرية والأدبية لمثقّفين وشعراء تتخلّلها اقتباسات لهم أو محاورة أفكارهم في سؤال الهوية والتباساتها، أو في الحب أو الموت أو الذاكرة. بعضهم أصدقاء مقربّون، وآخرون يحضرون ليشاركوا خوري هواجسه وأفكاره، من خلال هذه التداعيات التي يُقحمنا بها مستعيراً صوت بطل ثلاثيته آدم دنون معظم الوقت، وأحياناً صوته هو كراوٍ، إلى درجة قد يلتبس علينا الأمر فلا نعود ندري مَن منهما يتحدّث.
بل نشعر أنه يستعير أصوات شخوصه الأُخرى كراشد حسين، الذي يلتقي به آدم دنون في المتخيّل أو مناماته. أو خليل أيوب ودالية إلى درجة يصبح الأمر مُتعِباً إنْ شردنا بالقراءة قليلاً لنتمعّن بجُمل تستدعي منّا التفكير والتأمّل وما أكثرها! خاصة حين يتلاعبُ في بداية الرواية بالكلمات ومعانيها التي تحمل تأويلاتٍ متعدّدة، حين يوازي بين الشوق في كلمة "وحشتني" أو "توحشتك"، والموت بما هو وحشة. ويستعير صوت بطل ثلاثيته آدم، وهو يخوض مغامرات فكرية على لسان آدم الذي يتساءل كيف تلاشى حبّه لدالية كأنه لم يكن، كما الحديث عن المنفى والذاكرة.
يترك رواياته مفتوحة لتأويل ولقراءات متعدّدة لا تنتهي
"كان آدم دنون على يقين بأنه يعيش قصة حب عَصيّة على الموت. بحبّه لدالية اغتسل من ماضيه، وصار قادراً على التذكّر لأن دالية ساعدته على تحرير ذاكرته من الألم".
"قال - والكلام هنا للراوي - إنه صار يملك ذاكرته لأنه استطاع أن ينسى"، يتحدّث آدم كأنه يهلوس. فحكايته لا تُصدَّق ويُمكن أن تشكّل استعارة أو رمزاً، لكن أليست حكايات الفلسطينيين والفلسطينيات تصلح كلّها أن تصنَّف كرموز لشيء أعمق، مع أنها واقع حيٌّ لا يحتاج إلى ترميز. إذ تتفوّق حكاياتهم وارتباكات حيواتهم على أي رمز يُمكن استخدامُه لكتابة رواية أو شعر. فقد تتحوّل المآسي الفلسطينية عند كلّ فرد، سواء كان في داخل فلسطين أو خارجها، إلى استغراق متواصِل بمعاناة تفوق الوصف تصل حدّ السأم، فيما الفكر يهذي والأخيلة التي بينما تحوّل فلسطين إلى أرض مقدّسة، ألغتِ أهلها ووضعتهم في هامش لا يراهم فيها الغُزاة، بل ظلال الأنبياء والرُّسل. وهذه هي مأساتهم، وهذه هي لعنة فلسطين بأن صارت أرض الأبدية.
لا يفوتنا أن نشير إلى أن رواية "رجل يُشبهني"، انفتحت على احتمالات تأويلية لا تنتهي، وأنّ غرَق خوري في نظرية أدبية عن وجود شيطان يُوحي للشاعر والكاتب، مهّد لها بأحلام آدم التي كان يستيقظ منها ليجدَها أمامه على الورق. تختلط فيها تلك الأحلام باليقظة، وربما بهواجس الكتابة التي يعيشها الكاتب. ربما بسبب انشغال صاحب "يالو" (2002)، بالرواية الفلسطينية، وهو اللبناني ابن "الجبل الصغير" (عنوان رواية لخوري صدرت عام 1977) في أشرفية بيروت، والمناضل الفتحاوي مذ ذهب للأردن في أواخر الستينيات ليلتحقَ بالفدائيين.
وهذا شيء فوق العادة، وإنْ بدا لنا أنه يعيش معنى أن يكون فلسطينياً من كلّ قلبه. بل يُتابع كلّ صغيرة وكبيرة تجري في داخل فلسطين وخارجها، أو تتعلّق بالفلسطينيين. لكنه إنسانٌ مثل كلّ فلسطيني وفلسطينية لديه هواجسه وتساؤلاته، حول الحبّ والموت والذاكرة والعنصرية والحروب، إلى كلّ ما قد يحرّك بالإنسان مشاعر وأحاسيس قد تقوده للاستسلام للهذيان، أو أسير التداعيات لما يجري من حوله. نوع من الهذيان الواعي ليشرع أفكاره على كلّ احتمال، ويترك رواياته مفتوحة لكلِّ تأويل ولقراءات متعدّدة لا تنتهي بالقارئ العادي ولا تنحصر بالقرّاء النخبة.
ماذا أراد الياس خوري في "رجل يُشبهني"؟ ومَن كان يستهدف مِن القرّاء، لاسيما أنها تعجّ بأسماء مفكّرين بارزين من عرب وغير عرب، معاصرين وقدماء. وأحداث تاريخية وملوك وحروب ونصوص دينية، ومفارقات تدخل حيّز المغامرات الفكرية، أطالت الرواية حتى بلغت الخمسمئة صفحة. لماذا؟ وهل هنالك ما يبرّر هذه التداعيات النظرية في معرض البحث عن رجل يشبه آدم دنون أو الياس خوري، الذي منذ روايته الأولى من الثلاثية أقحم نفسه كشخصية من شخصيات روايته، ليقنعنا بحقيقة دفاتر آدم صديق تلميذته الكورية سارانغ لي. وقد أقنعنا. وهل كان ثمّة خطّة سردية بديلة كانت أجدى من هذه الإطالة، وهو الذي يردّد دائماً أن الكتابة هي فنّ الحذف؟
هذه التساؤلات ليست ذمّاً ولا إطراءً للروائي، بقدر ما جعلتني أقرأ الرواية مرّتين. أربكتني القراءة في المرّة الأُولى، لكنها أذهلتني في المرّة الثانية، وتساءلت حينها عن حقّ الشاعر في ما لا يحقّ لغيره، فربما آن الأوان - ونحن في زمن الرواية - أن نقول: يحقّ للروائي ما لا يحقُّ لغيره. وهنا نطرح سؤالاً قد يبدو مستهجناً: هل يجب على كلّ روائي أن يحوز معرفة موسوعية ونقدية كتلك التي هي لصاحب "رائحة الصابون" (2007)، ليحقّق مشروعيته كروائي مفكّر وناقد، أم يكتفي برؤيته النقدية لواقع الشخصيات المعاش؟ قد لا نعرف الجواب الآن، لكنَّ الأكثر مشروعية باعتقادي أن يتحرّر النص الروائي من سُلطة القوالب الجاهزة والمعايير التقليدية، وهذا ما يقودُه صوب فتحٍ جمالي يُحرّر الروائي نفسه من سُلطة المنهج والتنميط. هذا رهنٌ بخيارات القرّاء أيضاً، أيّاً كانوا أو كنّ.
* كاتبة وإعلامية فلسطينية