جرت العادة أن يتمَّ تسليم جائزة "ثربانتس للآداب"، في اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف؛ الذي يصادف الثالث والعشرين من شهر نيسان/ إبريل، احتفاءً بذكرى رحيل مؤلف "دون كيخوتي دي لا منشا"، في مسقط رأس الكاتب الإسباني في مدينة ألكالا دي هيناريس (قلعة النهر). لكن هذا العام، وبشكل استثنائي، تمَّ إرجاء موعد تسليم الجائزة إلى اليوم التالي، لأنّ الثالث والعشرين صادف يوم عطلة. هكذا استلمَ الشاعرُ الفنزويلي رافائيل كاديناس في الرابع والعشرين الجائزة، في قاعة الاحتفالات بجامعة ألكالا، ليكون بذلك الشاعر الخامس على التوالي، بعد إيدا فيتالي، وجوان مارغريت، وفرانسيسكو برينيس، وكريستينا بيري روسي.
كان كاديناس برفقة أسرته وأصدقائه مرتدياً بدلته العادية. بدأ الحفل بكلمة وزير الثقافة ثم تبعته مديرة الكتاب على المنصة. تحدّثَ الاثنان عن سمات الشاعر الفنزويلي وكتاباته الشعرية وقيمتها في اللغة الإسبانية. كان ذلك قبل أن يصعد كاديناس إلى المنبر ويستلم درع الجائزة وميداليتها من ملك إسبانيا، وسطَ حشد كبير من المدعوّين من عالِم الأدب، والفكر، والفن، والصحافة، ثم يأخذَ الكلمة ويبدأ خطابه.
كان كاديناس قد أعدَّ كلمتهُ عن علاقة الشعر باللغة، وعن حبّه وشغفه بالقراءة، وخصوصاً اهتمامه بالقواميس والاشتقاقات اللّغوية فيها، هناك حيث يرقدُ الشعر هانئاً: "ثمّة لحظات يكون الشعر فيها غريزياً، لا إرادياً، وفي كثيرٍ من الأحيان، لا يرقد الشعر في القصيدة نفسها، إنّما في اللغة، في الكلمات، وفي كيفيّة استخدامها"، يقول الشاعر الفنزويلي، مشيراً في خطابه إلى أنَّ ثربانتس الجندي علّمنا تحديداً "أن نتكلمَ"، ويتابع: "حبذا لو يهتم الجنود اليوم بالكلمة أكثرَ من أيّ شيء آخر!".
كنتُ أفضّل لو حصلت على الجائزة وأنا ما زلت شاباً
وتابع كاديناس خطابه أمام الحضور كما لو أنّه يناجي نفسه، فقد كان خطاباً حميمياً واعترافيّاً إلى حدّ ما، لا سيّما عندما قلّل من أهمية بعض قصائده، رغم احتضان جمهور القرّاء لها بشغف كبير، مثلما هو حال قصيدته الشهيرة "هزيمة"، التي نُشرت عام 1963. يقول الشاعر: "كتبتُ هذه القصيدة فيما كنتُ أعاني من أزمة اكتئاب. رحتُ أصفّ الكلمات واحدةً وراء أخرى، ولكن أمام دهشتي وحيرتي، كانت الأكثر انتشاراً وترجمةً إلى لغات أخرى".
ومهما يكن من أمر، استطاع كاديناس خلال مسيرته الأدبية أن يسمو بشعره وبذاته، وأن يتغلب على الهزيمة والإخفاق (كما يُعَنْوِنُ قصيدة أخرى من قصائده الكبرى) والمنفى، فقد كان مثالاً لشاعر لا يتساهل مع ذاته، معتبراً الشعر الطريقة المُثلى لتركِ شهادة دقيقة عن الحياة. وقد تكون سنوات نفيه لأسباب سياسية في جزيرة ترينيداد في البحر الكاريبي مثالاً على كاتبٍ تمسّك بالشعر من أجل هزيمة المنفى والإخفاق.
هنا يتوقف كاديناس وقد ظهر عليه عبء السنين، مراراتها وأوجاعها، يشربُ الماء، يأخذُ نفساً عميقاً، ويتساءل أمام الحضور بنبرةٍ لا تخلو من المزاح والطفولة: "وبعد هذا كلّه، ألم تتأخر جائزة ثربانتس؟"، ويجيب هو نفسه عن السؤال: "لقد أتت الجائزة في سن شيخوختي، وكنتُ أفضّل أن أحصلَ عليها وأنا شابٌّ، حين كنت في حالة جسدية جيدة تسمح لي بالسفر. بالمناسبة، مطار مدريد ضخم، لم أكن أذكره كبيراً إلى هذا الحدّ".
وفعلاً، تأتي "جائزة ثربانتس" بعد سلسلة الجوائز المهمة في اللغة الإسبانية التي نالها الشاعر، حيث حصدَ جائزة "الملكة صوفيا للشعر الإيبيرو أميركي" في عام 2018، وجائزة "المعرض الدولي للكتاب للآداب باللغات الرومانسية" بغوادالاخارا المكسيكية 2009، وجائزة "فيديريكو غارسيا لوركا العالمية للشعر" في 2015، بالإضافة إلى العديد من الجوائز الوطنية، بما في ذلك جائزة "فنزويلا للآداب" التي نالها سنة 1985.
وكان كاديناس في الآونة الأخيرة قد تردد إلى إسبانيا كثيراً من أجل نشر كتبه. ففي العام الماضي، وقبل استلام الجائزة، وقّع عقد نشر أعماله الكاملة مع دار نشر "بري تيكستوس". كما سبق له أن نشرَ مختاراتٍ شعرية في دار نشر "بيسور". وتُعتبر هذه المختارات من أكثر كتبه مبيعاً في إسبانيا، لا سيّما وأنّها جاءت بتقديم الكاتب والناقد خيسوس غارسيا سانشيث، حيث تناول مسيرة كاديناس الإبداعية ودرس أهم قصائده. يقول خيسوس في مقدمته: "استطاع كاديناس بشعره أن يعبّر عن الهزيمة التي تحيط بنا، وعن خيبة الأمل الموجودة في الحياة، لكن مع ذلك، إن كان ثمة شيء قد أسعف كاديناس فهو الشعر، وليس تراكم الزمن خلفه".
ماذا ننتظر من الشعر إلّا أن يجعل الحياة أكثر بهاءً؟
وبطبيعة الحال، كان لا بدَّ لكاديناس في خطابه أمام الحضور من أن يذكر شريكة حياته وزوجته ميلينا، رفيقة العمر، التي خصّته دوماً بعنايتها حتى يوم وفاتها في 2017. كذلك شكرَ حفيدته التي تعيش معه في كاراكاس، والتي تعتني به اليوم، كون ابنته باولا تعيش في مونبلييه، بفرنسا، حيث تعمل هناك في "جامعة بول فاليري".
مع هذا التكريم، سيكون كاديناس أوّل كاتب وشاعر فنزويلي ينال الجائزة الإسبانية، إلّا أنّه، وكما يقول، لم يتلقَ أيَّة تهنئة من حكومة بلاده. ربما لهذا السبب لم يرغب في إبداء رأيه بالوضع السياسي في فنزويلا، وفضّل عدم الإجابة عن أسئلة الصحافيين السياسية.
يذكر أن كاديناس، قبل استلام الجائرة وبعدها، شارك في العديد من أنشطة أسبوع ثربانتس، فقد افتتحَ القراءات السنوية لدون كيخوتي في "دائرة الفنون الجميلة" بمدريد، وقام بأنشطة عديدة في المؤسسات الثقافية مثل "المكتبة الوطنية" بمدريد، "جامعة ألكالا دي هيناريس" و"سكن الطلبة" بمدريد، كما قدَّم هدية لـ "معهد ثربانتس"، بحضور مديره الشاعر لويس غارسيا مونتيرو، وكانت عبارة عن أوّل آلة كاتبة استعملها في حياته، واثنتين من مخطوطات أعماله تمَّ وضعهما في "صندوق آداب المعهد" حيث يُحتفظ بمقتنيات بعض كبار كتّاب اللغة الإسبانية.
"ماذا يمكن أن ينتظر المرء من الشعر إلّا أن يجعل الحياة أكثر بهاءً"، قد تكون هذه الجملة التي قالها كاديناس، مرةً، في إحدى قصائده، تلخيصاً لمسيرة شاعرٍ عاش الحياة وكأنها قصيدة غير منتهية.
* شاعر ومترجم من المغرب