ذَهَبُ الحالمين

15 مارس 2021
عمل لـ تحية حليم
+ الخط -

أتعلمين أنا لم أختر أيًّا من تلك المعارك التي خضتُها. وكذلك لم أكن شجاعة كفاية كي أعرف متى أغادر أيًّا منها، كنتُ أحاول دومًا أن أغيّر وجهة نظر الذين أحببتهم عنّي، شعرتُ أنّي أحيانًا أرغب في تحريرهم من أفكارهم المسبقة وأحكامهم الجاهزة كي أتمكّن من إقناعهم بحبّي. كنتُ أخجل من نظرتهم إلى المشاكل التي تواجهني مع أبي، لكنّني لم أقل لأيّ منهم يومًا: "إمّا أن تحبّني أو تحبّه". ليس فقط لأنّ تلك معركة ساذجة وخاسرة، بل في الحقيقة كنتُ أحترم عميقًا أن يحبّوه هو، بل أنا أيضًا، ولوقت طويل جدًّا من حياتي، أحببته، ولعلّي لم أفكر في مفاضلةٍ أصلًا، لأنّي اعتقدتُ دومًا أن الحبّ لا يمكن الإمساك به، أعني لا يمكن أن تقولي لأحدهم "أحبّني لأنّي أحبّك". أظنّ أنّ حبّي لهم وقتها كان أكبر من كلّ شيء حتّى الرّغبة في الحبّ المقابل.

لماذا أتكلّم عن الماضي؟ أما كنتِ تسمعين ما أقول؟ سأعيده بطريقة تجعلكِ تفهمين، وإن لم تفهمي، لا بأس، لقد تعوّدتُ على ألّا يفهمني أحد وبتّ لا أريد أن يفعل ذلك أحد… كنتُ عنيدة مثل الأطفال، أحاول وأحاول من دون كلل، لم يكن أحد يرى ما أبذله من جهود. أشعر أنّي كنتُ أعيش في الظّلّ، لا أعرف إن كان يصحّ أن أقول إنّي كنتُ أعيش في ظلّ ماردٍ أو شيطان يحرمني النّور. الغريب أنّني كنتُ وقتها أخاف الموت، بل يمكنني أن أقول إنّي كنتُ أحبّ الحياة بالنّسبة إلى امرأة معنّفة. أجل أنا امرأة معنّفة. لطالما خجلتُ من تلك الحقيقة، وسحقني الشّعور بالعار، حتّى حين تعرّضت حياتي إلى الخطر وأحيانًا شارفتُ على الموت تحت الضّرب صمتُ. لقد عرفتُ الكثير من أنواع التّعنيف: عنّفني أبي من دون سبب، لأنّه غاضب معظم الوقت أو جاهل أو مسكين ربّما، لقد مرّ وقت طويل وهو يعنّفني لأيّ شيء وكلّ شيء. لكنّ أبي لم يكن وحده من عنّفني، فأمّي بتقديسها أبي ومزاجه وتخطيئها كلّ ما أفعله، مهما كان طبيعيًّا أو صحيحًا، طالما أنّه يتعارض مع فهمها أو تقاليدها أو مزاج أبي، شاركت في تعنيفي. لقد كانت هي امرأة معنّفة كذلك، لستُ ألومها. من أحببتُ من الرّجال عنّفني أهملني وتجاهلني وخانني ومارس عليّ ساديّته ونرجسيّته. كنتُ دومًا أعود إليه مهما أخطأ في معاملته لي. كنتُ أرى ذلك طيبة، لكنّه في الحقيقة وجه انسحاق ذاتي، كنتُ أتمسّك بأيّ شيء حتّى وأنا أعرف أنّه وهم. لقد علّمونا أن نقبل الظّلم كحقّ للآخر، أن نضحّي كي نستحقّ القليل من الشّفقة، أقول الشّفقة لا الحبّ لأنّ الحبّ الحقيقيّ غير مشروط بالضّرورة، إن شئت سمّيه فتات الحبّ لا تزعلي ولا تحاولي أن تقاطعيني أرجوك، لن أكون دومًا في مزاج يسمح لك أن تدرسي حالتي. زملاء العمل عنّفوني، منهم من تجاهلني ومنهم من تآمر عليّ ومنهم من سكت عن ذلك. ربّما أنا عنّفتُ نفسي، أجل لا تستغربي لقد نسيتها، أذبتها في الآخرين، أعطيت من لا يستحقّ وقبلتُ بطواعية وذوبان أن يتحكّم في مصيري ظروف الآخرين أو أمزجتهم، كنتُ أعمل ليل نهار، لم يشكرني أحد يومًا، بل على العكس كانوا يترصّدون أيّ هفوة ليعلّقوا مشنقتي، لم يسمعني أحد، أتعلمين كنتُ أشبه بآلة، حتّى لو سألتني عن مشاعري وقتها لن أعرفها مطلقًا، لم أكن أعرف كيف أفهم حاجتي، لم أعرف إن كان لي حاجة أصلًا، هل كان ذلك كي يقبلني أولئك القساة؟ لا أعلم ولست نادمة…أترين هذه النّدبة هنا؟ ليست وحدها ما تركه فيّ التّعنيف، كيف سأريك تلك النّدبة في قلبي؟ 

أتعلمين ماذا قال أينشتاين في الذّكاء؟ "الجميع عباقرة لكن إن حكمتَ على قدرة سمكة في تسلّق شجرة، ستعيش حياتها كلّها تؤمن بأنّها غبيّة" أقول لك هذا لأقرّب ما كنت أشعر به طوال حياتي، نعم، يمكنك أن تقولي لقد عشت أكثر من عشرين سنة وأنا أحاول أن أثبت لهم أنّي جديرة بالحبّ، فيما كان يمكنني أن أمضي بصمت وأترك لهم أن يفهموا أو ألّا يفهموا؛ أعني تمامًا كما حصل قبل الحادثة…لم يعد يعنيني شيء، ولن أحاول تزيين ذلك فأدّعي أنّي بتّ غير مبالية وأنا أشعر برضى المُحبّ، كلّا، لقد كان ذلك في مرحلة أسبق، حين كنتُ أحاول تسلّق الشّجرة، أمّا حينها فقد بات صمتي وجهًا آخر للومي الجميع. 

عشتُ أكثر من عشرين سنة أحاول أن أثبت لهم أنّي جديرة بالحبّ

كيف أمكنني أن أستمرّ مع ذلك الألم؟ كنتُ على وشك الانفجار من دون أن ألاحظ شدّة توتّر روحي. رغبتي في التّحرر من كلّ شيء بلغت ذروتها. حتّى مشاعر الألم أردتُ أن أحرّرها من قيودها، لم أرغب في أن أواجه حزني فأطلقته. لو أنّي اصطدمتُ بأفكاري لعدت إلى لعب دور الضّحيّة، أنا في تلك الليلة قرّرت ألّا أنظر إلى الوراء، ألّا أتراجع… كنتُ بحاجه إلى التّحرّر. 

آدم يشبه أبي، أعني أنّه أنانيّ جدًّا، كان يظنّ أنّه فارس النّار وهو في الحقيقة بطل من وهم. كان ماهرًا في وضع خطط كي يمتلكني من دون أن يظهر رغبته فيّ أو حبّه لي. تعلّمت منه، وحين ظهر شخص آخر في حياتي استغلّيت حبّه لي، تلاعبتُ به تمامًا كما تلاعب بي آدم. راقبتُ آدم، وعرفتُ عناوين زوجات أصحابه اللواتي كان يزورهنّ في أثناء غياب أزواجهنّ، لمَ تستغربين أنّهن كثر؟ قلتُ لك كان نرجسيًّا، اشتريت رقمًا جديدًا وهاتفًا جديدًا وأرسلتُ لواحدة منهنّ صورة التقطها من أخبرتك أنّه أحبّني واستغللته، ماذا اسمه لا ليس مهمًّا، كما أرسلت لآدم صورة لها وهي تداعب آخر، وهل أنت ساذجة؟ من تعرف على زوجها رجلًا قد تعرف عشرة، طبعًا طبعًا ليست قاعدة ولكن من يهن يسهل الهوان عليه، المهمّ كانت تلك الشّرارة التي أحرقت الهشيم كلّه…وجلستُ أنظر، جنّ آدم حين لحقت بزوجها إلى بلجيكا، لمَ يغضب؟ لأنّ مثله يريد كلّ شيء ولن يترك إحداهنّ تنتصر عليه وهي من تقرّر أن تنسحب، ثمّ توالت الاتّصالات من مجهول والصّور التي تُرسل من أرقام تُرمى فورًا بعد استخدامها، أرسلتُ إلى كلّ من عرفها غيري، قبلي أو بعدي، أتتخيّلين حجم وجعة الرّاس التي عاشها، ولم يكن ذلك كلّ شيء. 

كنتُ قد تشاجرتُ معه ولم اتّصل به، وهو طبعًا كان ينتظر أن أبادر أنا بالاتّصال ومراضاته كما هي العادة، فاستغللت الوقت لأكسبَ معركة جديدة. وهكذا بعد أن أوقعت بينه وبينهنّ واحدة تلو الأخرى، حتّى فرغت سلّته، انتظرت ثلاثة أشهر، ليست شيئًا في حساب الزّمن، ولكنّها مدّة كافية كي يتذكّره المصرف ويطالبه بسداد الدّفعات، توقّف عن السّداد لأنّه كان يدفعها من نفقة تلك النّوسة عليه من مال أزواجهنّ، تخيّلي هشاشة تلك العلاقات، لا أعرف لمَ يقدم عليها أولئك المهابيل…المهم لم يعد في البال سوى محسوبتك.

اتّصل آدم، حاول أن يقيم علاقة عبر الهاتف فتمنّعت، أن يفتح كاميرا فرفضتُ، سايرني قليلًا لكنّه كان قليل الصّبر قال: "مالك؟ شو أوّل مرّة بغيب عنّك؟ ما إنت بتعرفي إنّك بالبال، وينك إذا بدّك منروح عشي محلّ" نزلتُ على غير عجل، كان منتظرًا في السّيّارة، وحين اقتربتُ لم يشعر بي، وجدته ينظر إلى صور امرأة على التّلفون، بيني وبين نفسي شعرتُ كم هو مقرف وتحسّرتُ على السّنوات التي أضعتها من وقتي وأنا أحاول إصلاحه، مؤمنة بأنّ الحبّ سيغيّره… تعشّينا، طبعًا خلال العشاء حاول إلهائي عن معاتبته على غيابه، قصّ عليّ حكاية مرض أمّه المفاجئ وكيف بحثوا لها عن طبيب خارج لبنان، وراح يصف حال المرضى وسوء المعاملة في المستشفيات، يتذمّر من البلد وحكّامه ونظامه، كنتُ غير متفاجئة بقدرته على اختلاق الأكاذيب، ولكن أتعلمين كنت منبهرة بخياله، لقد كان بارعًا بحقّ.

لم أرد أن أذلّه، كنتُ قد تخطّيت ذلك بمراحل، أردتُ أن أمحي وجوده. لكنّي احترتُ أيّ طريقة ستشفي غليلي ألَم السّم أم وجع حوادث السّيارات أم الحرق؟ من؟ آه تقصدين ذلك الرّجل الذي أحبّني، كلّا لقد كانت معركتي وأردت أن أنتشي حتّى النّخاع. وهو قد عاد إلى زوجته وأولاده، آه لم أخبرك، هو أيضًا كان متزوّجًا يبحث عن نزوة عابرة وظنّ أنّي مسكينة سأرمي نفسي في أحضان أيّ رجل، تعرّفتُ إليه في اليوم الذي اكتشفتُ فيه خيانة آدم، تخيّلي الصّدفة، وتخلّصت منه بعد أن ساعدني في إرسال تلك الرّسائل ظانًّا أنّي سأقيم معه علاقة بعدها، لكنّي هدّدته بأنّي سأفعل به مثلما فعلنا بآدم وأرسل إلى زوجته صوره مع تلك الفتاة التي خانها معها، طبعًا هو لم يتوقّع منّي ذلك والجميل أنّه لم يحزن.

كان على آدم أن يختار، إمّا أن نرسّم علاقتنا أو أن أخبر أهلي بأمر حملي. كلّا لم أكن حبلى طبعًا، ادّعيتُ ذلك، لأنّي أريده أن يظهر علنًا على حقيقته، احتدم الصّراع بيننا أيّامًا، غيّر رقم هاتفه فقصدتُ منزله، كانت أمّه وأخوه هناك، أخبرتهما بعلاقتي بآدم، اتّهماني بتلفيق الأكاذيب وطرداني من البيت، لكّني هدّدتهما أنّي سأخبر إخوتي وأبي، وقبل أن أخرج دوّنتُ رقمي وأنا أقول: "إن لم يتّصل بي أحدكم قبل العاشرة مساء سأعرف أنّكم تقبلون بما سأقوم به لأنسب طفلي إلى والده، ولست مسؤولة عمّا سيفعله أهلي".

عند التّاسعة والنّصف هاتفني أخوه، قال إنّ علينا أن نتفاهم، اتّفقنا على موعد في كافيه في اليوم التّالي، طلبتُ منه أن يحضر آدم معه. في الموعد المحدّد كانا ينتظران، أخوه ببذلته العسكريّة، وهو ببنطاله الجينز الممزّق والـ تي شيرت الرّماديّة التي اشتريتُها له في عيد ميلاده. لم يبد عليهما أنّهما في مزاج جيّد، لم تكن صدفة أنّ والدي كان جالسًا في ذلك المقهى، فأنا أرسلتُ له رسالة من رقم مجهول، أخبرته فيها أنّ ابنته في علاقة سرّيّة بشخص وهي حامل منه وهما سيلتقيان في اليوم التّالي، لم أنسَ أن أعرّفه إلى ملامح الغريبين، فأخوه الذي يهدّد ابنته به ضابط وهو سيرافقه كي يسكتها.

هل سمعتِ بالمثل القائل: عصفوران بحجر واحد؟ إلهي كم كان لقاء مدوّيًا، لم ينتظر أبي، ما إن لمح البذلة العسكريّة حتّى توجّه إلى الطّاولة ورفع سلاحه علنًا في وجه آدم، تفرّق الموجودون وحاول آدم أن يهرب لكنّ رصاصة أبي التي اخترقت ظهره واستقرّت في قلبه سبقته… سُجن أبي ومات آدم، آه الرّسالة التي بعثتها إلى أبي؟ محوتها حين نام، وطبعًا عائلة آدم لم ترغب في إثارة الفضائح، مدينة صغيرة وناسها يعرفون بعضهم البعض، وأخته لم تتزوّج بعد، لذلك أشاعوا إنّ خلافًا على المال كان وراء الشّجار وطبعًا الجميع في مجتمعنا يعرف كيف أنّ إشهار السّلاح "يطوَل" كما يقول المصريّون.

أتعلمين، لم أشعر بأيّ شيء وأنا أتلوّى فوق أخيه… لمَ تحدّقين فيّ هكذا؟ أوَكان من الممكن أن أجعله يُسكت أمّه بغير هذه الطّريقة؟ وكم كانت سهلة. كنتُ قد تعلّمت متى أخوض معاركي ومن أجل من…

كيف وصلتُ إلى هنا؟ مللتُ، أردتُ أن أعيش بسلام، ولأنّي عشتُ الجنون وجدته ممتعًا وشهيًّا، هنا سلام حيث لا تفسّرين أفعالك لأحد، يمكنني أن أكون حرّة بصورة مطلقة، لا حدود ولا مفاهيم ولا مراسم ندفن فيها كرامات النّاس باسم الأعراف أو نمحوَ وجودهم باسم التّقاليد أو نشعر بالتّميّز عنهم لأنّنا نتوضّأ…هنا حرّيّة تامّة، النّاس هنا طبيعيّون إلى درجة لا تصدّق أحدهم يشعر أنّه شجرة ويظنّ آخر أنّه الله…ما الحدّ بين أن يقول بعض المتصوّفة بالتّوحّد، أو أن ينظّر له علماء الطّاقة أو أن يشعر به شخص يراه مجتمع مريض أنّه مجنون؟ ماذا هل أظنّ أنّ الحكمة تولد من الألم؟ لقد جعلتني أضحك يا فتاة، هذا آخر ما أريد أن أعرفه، ولكن أتعلمين حتّى أنتِ كنتِ لتشعري أنّ الإقامة هنا جميلة، سؤالك يجعلني أشعر بذلك بقوّة، أنت معنّفة بالطّبع، كلّنا معنّفون يا صديقتي، تعنّفنا أفكارنا وأهلنا وشارعنا والحيّ والمدرسة والطّائفة ورغباتنا المدفونة وأمّهاتنا اللواتي تربّين على أنّ العنف حقّ، وآباؤنا الذين مارس عليهم أرباب العمل العنف، والسّاسة الذين نسوا وهم يخطّطون مع الشّياطين مستقبل البشريّة ورجال الدّين الذين لا يعرفون من الديّن غير لبس العمامة أو الصّلبان المذهّبة… جميعنا معنّفون وحالمون ولا جدوى من كلّ ما تقومين به من دراسة وتدقيق في الأسباب وحالات المرضى، فخلف هذه الأسوار العالية ملايين المجانين يدّعون العقلانيّة، لا تكوني سمكة يا صغيرتي… أنظري لقد مللتُ سأذهب وأغلق الباب ورائي، لكن لا تنزعجي إذا دخل أحدهم يريد أن يبول.


* كاتبة فلسطينية مقيمة في لبنان

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون