تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. تصادف اليوم، العاشر من أيار/ مايو، ذكرى ميلاد النحّات المصري محمود مختار (1891 - 1934).
توجّه محمود مختار الذي تمرّ اليوم الإثنين ذكرى ميلاده المئة والثلاثين، إلى دراسة النحت في باريس في لحظة كان الاتجاهات الجديدة في الفنون عامة تحلّ مكان القديمة، في العقد الثاني من القرن العشرين، مع صعود تجارب أرادت الخروج عن جميع المعايير والأسس التي تم التوافق عليها في أوروبا خلال قرنين ماضيين، فقرّر أن يأخذ مسافة تؤهله الاستفادة من حالة التنوّع والجدل التي سادت آنذاك.
أظهر النحّات المصري (1891 - 1934) تفوقاً دراسياً أثناء تعلمّه في فرنسا، مع إحساس لم يغادره بضرروة التمسّك بنديّة في التعامل مع نظرائه الغربيين، معتدّاً بأفكاره وما يقدّمه من أعمال في تلك الفترة، حيث تقدّم للمشاركة في معرض الفنانين الفرنسيين السنوي بتمثال "عائدة"، وكان من أوائل التماثيل التي قبلت، ليصبح بذلك أول أثر مصري معاصر يظهر في معرض خارجي.
أكسبته دراسته رؤية خاصة تمثّلت في دعوته إلى "تطعيم الواقع بدرجة محدودة من الخيال ليكون الفن حقيقياً ونابعاً من ذات الفنان. اتجه إلى استلهام جوهر التراث وروح العصر وصور البيئة المصرية، وكانت له عين مدربة على ترجمة الشكل الواقعي في هيئة منظمة ومنسقة تدل على أن الفنان لا يقف عند حد التعبير عن الجمال وإنما يهتم ببث الإحساس بالحيوية وقوة التعبير في تماثيله"، كما يورد الناقد صبحي الشاروني في كتابه "ذاكرة الأمة.. محمود مختار ومتحفه".
ويوضّح الشاروني بأن مختار "اعتنى عناية خاصة بصياغة الكتلة متبعاً الأسلوب البنائي والصفات المعمارية، وهذا يحفظ لتماثيله ـ مهما صغرت ـ كل خصائص النحت الكبير دون إغراب أو افتعال"، و"وحين نحت تماثيله الصغيرة الشهيرة للفلاحات، نحتها مفعمة بالقوة والحيوية والخصوبة والأنوثة.. ليست أنوثة الجواري، لكنها أنوثة شجاعة معتزة بنفسها، وفي تمثاله وجه فلاحة المسبوك بالبرونز يعبر عن الطلعة التي لوحتها شمس الحقول مع تقطيبة تقي العينين الضوء الساطع ولا تخفى الجمال الجاد المشع من تحت عصابة الرأس".
أراد صاحب تمثال "نهضة مصر" أن يشكّل رؤية بصرية موازية للهوية الوطنية المصرية الصاعدة بعد ثورة 1919، وكثيراً ما تجري مقارنة دوره في الفن بما قام به سعد زغلول، لذلك انطلق في جميع ما قدّمه من الواقع ساعياً إلى تجسيد ملامح الشخصية المصرية والتعبير عنها بعد طول زمن من محوها وإقصائها عن الحياة العامة.
كما قدّم رؤية مباشرة في منحوتاته التي عبّرت عن المقاومة ضدّ المحتل، ففي العديد من تماثيله الريفية وعلى رأسها تمثال الخماسين الذي لا يقف عند حد التعبير عن مقاومة الريح، وإنما يطاول كل أشكال النهضة والانطلاق بمصر نحو مستقبل يليق بمكانتها.
ويشير العديد من النقاد ومؤرخي الفن إلى دور "جماعة الخيال" التي أسسها مختار عام 1928 في توطين حداثة فنية مصرية تستلهم التراث، وهي رؤية أثّرت في أجيال لاحقة سارت على هديه، وتشكيل امتداد وتطوير لتجربته القصيرة، حيث رحل قبل أن يبلغ الثالثة والأربعين تاركاً مجموعة من المنحوتات الشهيرة في تاريخ مصر ومنها "ابن البلد"، و"حارس الحقول"، و"حاملات الجرار"، و"نحو نهر النيل"، و"كاتمة الأسرار"، و"عروس النيل"، و"مناجاة".