زار الشاعر والأديب السوري خليل مردم بك مدينة القدس في عام 1923، في السنوات الأولى من الانتداب البريطاني، ودوّن وقائع رحلته في عدد من الرسائل الصحافية التي نشرها في صحيفة "لسان العرب" الدمشقية، فكانت وقائع هذه الرحلة في ثلاث رسائل بدأها من لحظة دخوله إلى فلسطين في القطار عن طريق طبريا، وصولاً إلى القدس التي مكث فيها أياماً عدة وزار خلالها بيت لحم.
والشاعر مردم بك مولود في دمشق عام 1895، لأسرة يتصل نسبها بالوزير العثماني مصطفى لالا باشا، فاتح قبرص، الذي أمضى سنوات حياته الأخيرة في دمشق وتزوج ابنة آخر سلاطين المماليك فاطمة خاتون ابنة قانصوه الغوري.
ورغم أصله التركي، أو البوسني، كان خليل مردم بك قومياً عربياً حتى النخاع، ومن أشد المتحمسين للحكومة العربية الفيصلية، ومن أشد المناوئين للحكم العثماني في سنواته الاتحادية. وقد أطلق على "الحقبة الفيصلية" القصيرة اسم النهضة المباركة، وعبّر عن ذلك في الكثير مما كتبه، وكمثال على ذلك مقاله في جريدة "لسان العرب"، عدد 9 نيسان/ إبريل عام 1919، تحت عنوان "بوارق النجاح"، إذ قال فيه: "نشاهد كل يوم من أعمال حكومتنا العربية، ما هو دليل واضح على صعودها سلم الارتقاء، وسلوكها السبل الموصولة إلى مستوى الحضارة، فقد يسّر الله لها في بضعة أشهر ما عسَّر على الحكومة البائدة في سنيها العديدة من الأعمال، وشتان ما بينهما، هذه تدأب على إعادة مجد غابر، طوت الأيام صحفه ظلماً وعدواناً، وتلك تود الإجهاز على ذمائه، والقضاء على ما بقي منه". ويضيف: "فكان من أبر أعمالها، تأسيس المدرسة الحربية والمدرسة الطبية، وفرعها الخاص بطب الأسنان والإكثار من عدد المدارس في العاصمة والملحقات، والشروع بتأسيس متحف، ومكتبة، ونقابات صناعية، وجمعيات الرفق بالحيوان، وغير ذلك، مما يضيق المجال دون استقصائه".
وكان لسقوط الحكومة الفيصلية، ودخول سورية في الانتداب الفرنسي أثر كبير على مردم بك الذي أصيب بحالة من الكآبة، لازمته في معظم كتاباته اللاحقة، وكان يعبر عنها بنزعة ساخرة تعكس حجم المرارة الذي يشعر به وهو يرى انقسام دول المشرق العربي إلى عدة دويلات صغيرة، خاضعة لاحتلال مباشر، واستكانة العرب في هذه الدول لمصيرهم.
معاناة ما قبل السفر
وعن معاناته قبل السفر يحدثنا رحالتنا عن الإجراءات الإدارية التعجيزية التي تواجه من يرغب في زيارة قطر شقيق، إذ يقول: "كان آباؤنا الأولون يقولون: السفر قطعة من سقر، وذلك لما كانوا يكابدونه من طول المساوف، واضطراب أسنمة الإبل وصهوات الخيل في قطعها، فلما سُخرت لنا القطارات والسيارات والطيارات. قلنا هذا مثل نسخ حكمه، ولكن أبى الدهر ذلك، فالمسافر اليوم يعاني أضعاف ما كان يعانيه الأولون".
ويعدد لنا تفاصيل تلك المعاناة التي تبدأ باستخراج وثيقة السفر، "وما أدراك ما إخراج الوثيقة؟ تذكرة النفوس، وشهادة تلقيح، ورسوم المسافر، مع رقعة تطوف ثلث دوائر الحكومة، فمن دائرة الشرطة. إلى مخفر الثمن، إلى شعبة التحصيلات، إلى مأمور الجوازات في الشرطة، إلى قسم التحري، إلى البعثة الفرنسية، إلى القنصل الإنكليزي، إلى مفوض الشرطة في الخطوط الحديدية بالمحطة، إلى من يفتش الصناديق والحقائب، إلى مأمور الجوازات في درعا، إلى مثله في سمخ".
نص مختلف
يوضح مردم بك لقرائه أنه سيكتب نصاً مختلفاً عما ألفوه في أدب الرحلات من وصف للأماكن وطبائع السكان وغير ذلك مما هو مألوف، حيث يقول: "لا أذكر هنا كيف دعتني الدواعي وحفزتني الحوافز إلى السفر. ولا مواقيت الرحيل وكيف نعب القطار بالبين، وكيف بلغت فلسطين. ولا أتعرض لوصف مدنها وعدد سكانها وتجارتها وزراعتها، ولا أبحث في طبيعة الإقليم وتأثيره بسكانها، ولا أتكلم عن الآثار والمعاهد المقدسة فيها، ولا آتي على ذكر الصهيونية وخطرها، لأن كل من أمَّ فلسطين كفيل بذلك، وإنما أذكر ما علق بذهني، لحسنه ولقبحه، مما رأيت أو سمعت في ذانك القطر، وهو لا يخلو من تفكه إن خلا من فائدة".
ويبدو أن مردم بك قد اطلع على الكثير من الرحلات التي وصفت القدس وفلسطين وأحوال سكانها، فقرر أن يكتب شيئاً مختلفاً، ينم عن روح أدبية تنتقي ما تراه لافتاً للنظر من صورة الواقع الغنية بالتفاصيل. وأول هذه الانتقاءات هي حالة التقسيم التي غدا عليها عرب المشرق بعد الانتدابين البريطاني والفرنسي، فها هو يحدثنا عن موظف الجوازات في نقطة سمخ الحدودية بين دولة دمشق ودولة فلسطين: "في محطة سمخ، دنا من القطار رجل مصري، فنزل إليه كثير من الركاب وازدحموا عليه وهو يأخذ من واحد تلو واحد، وثيقة السفر ويسأله بقوله: إلى أين تريد أن تذهب سيدي، أإلى سماخ سيدي، خذ، وثيقتك سيدي، مع السلامة سيدي".
ممالك ودويلات
ويتابع رحالتنا موضحاً داعي هذا الاقتباس: "علمت أن الرجل مأمور الجوازات، وأنه يعبث بالدمشقيين لما اشتهر عنهم من تكرير كلمة سيدي. وبعد أن فرغ من هؤلاء الذين يريدون النزول في سماخ، صعد القطار، وبدأ يجمع الوثائق من الركاب وهو ينادي بأعلى صوته باسبورت، باسبورت، وكان يمشي، معه ضابطان إنكليزيان وبعد أن جمع الوثائق بدا له أن يقعد في غرفتي، فسلّم عليَّ واستأذن بالقعود وأخذ يقرأ الوثائق واحدة واحدة، حتى أتى عليها، وأخذ خلاصتها، ومذ انتهى من عمله أعاد نظره على تلك الخلاصة، وهو يقول: مملكة الحجاز! مملكة العراق! سلطنة نجد! دولة دمشق! دولة حلب! دولة العلويين! دولة لبنان الكبير! دولة جبل الدروز! دولة فلسطين! دولة شرقي الأردن! قُلِ اللهم مالكَ الملك تؤتي الملك من تشاء".
ويبدو أن رحالتنا نزل في طبريا، ومضى إلى القدس بسيارة، حيث لم يختر أن يتوجه إلى حيفا بالقطار، ومن هناك إلى يافا فالقدس. إذ يقول: "أممت القدس بسيارة، كان بجانب سائقها غلام أسود، يستعين به السائق، فبعد أن اجتزنا نابلس، طرأ على السيارة ما أوقفها إلى ما بعد الغروب، فلما عاودت السير، كان نور مصباحها يضؤل، الحين بعد الحين، فينزل الغلام الأسود، ويضرب المصباح عدة ضربات، فيشع نوره، وهكذا عدة مرات، فقلت له: ما لهذا المصباح لا ينير إلا بعد أن يضرب على رأسه؟ فقال: وهل نحن إلا كذلك؟ لا ننتبه إلا إذا ضُربنا على رؤوسنا. فقلت له: الأمر كما ذكرت، والآن انتبهت".
طرائف القدس ونكبة اللغة العربية
في القدس، بدأ خليل مردم بك يدوُّن ما لفت نظره من قصص ومواقف طريفة منها قصة ترجمان في محكمة: "رفع بعضهم دعواه إلى القاضي الإنكليزي في القدس، فسأله القاضي بواسطة ترجمانه عن دعواه، فقال: إسقاط جنين. فغُمَّ على الترجمان (الفطن) معنى جنين، وظنها بلدة جينين، فقال له: إسقاط جينين، فلما سمع القاضي ذلك، أخذته العزة البريطانية، وانتصب قائماً، وضرب بيديه على منضدته، وقال: كيف سقطت جينين ومتى؟ وهل يجسر أحد على ذلك، والجيش البريطاني مرابط في فلسطين؟! فانحنى الترجمان على المدعي باللائمة، ونصح له بأن يعتذر، ويترك دعواه، ويبرح المحكمة. فلله براعة المترجمين".
ويلفت نظر أديبنا إهمال اللغة العربية من جانب سلطات الانتداب البريطاني، وتعمّد الإساءة إليها من خلال الترجمة الرديئة للشاخصات الإعلانية. ويقول إن الفلسطينيين الذين لا ينتسبون عند ذكر الأنساب إلى قطر معين، أو مقاطعة جغرافية، أو جيل بائد، بل يمتون إلى العربية وليس غير، يعيشون اليوم محنة صعبة في بلادهم. فهؤلاء المعتصمون بعربيتهم "تكاد تكون لغة العرب الصحيحة غريبة في قطرهم، اللهم إلا في زوايا المدارس الوطنية وصدور بعض الأدباء". ويذكر بعض الأمثلة في ذلك فيقول: "يستدعي العجب، ويثير الدهشة، تلك اللوحات المنصوبة على ظاهر الحوانيت، فكل لوحة مكتوبة باللغات الثلاث: الإنكليزية فالعربية فالعبرانية. أما الإنكليزية والعبرانية، فترى حروفهما حسنة الشكل، مستوفية قسطها من حدود الخط، وأما العربية، فتراها مرسومة بحروف ذات عوج، بعيدة عن التناسب والتناسق، كأنها الحروف المسمارية، عدا ما في مجموعها من الخطأ الفاحش في التركيب المعنوي، وإليك مثالاً من ذلك: "اتياب شغل، يريد: شغل الثياب. و"محل تعمير السنان"، يعني: طبيب الأسنان. و"فورون"، يعني: فرن، و"الشركة الكراج السوري"، إلى غير هذا من الأغلاط الفادحة التي لا يكاد يخلو منها مكان، حتى القبور".
ويستطرد خليل مردم بك في ذكر أمثلة أخرى من الأخطاء اللغوية التي رآها، ومنها أخطاء فادحة في كتاب مطبوع في القدس، يذكرها بالتفصيل، ولعل تركيزه على هذه الجوانب نابع من اهتماماته اللغوية فقد شغل منصب رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق. ولذلك تراه يوجه نداءً يستجيش به حمية أدباء فلسطين "كالنشاشيبي، والسكاكيني، والكرمي، والبدوي، ورجال حلقة الأدب في حيفا وغيرهم"، كي يضعوا حداً لهذه الفوضى اللغوية التي لا تليق بشعب يفتخر بالعروبة هوية.
ويلتقط أديبنا مشهداً رآه في أحد فنادق القدس يمثل احتكاكاً بين إنكليزي وفلسطيني: "رأيت ذات ليلة في أحد فنادق القدس، جماعة من الوطنيين، مجتمعين للسمر، وكان تجاههم منضدة قعدت أمامها سيدة إنكليزية، تقرأ صحيفة، بحيث سدت الطريق، فتقدم إليها أحد الوطنيين، وطأطأ رأسه قائلاً: هل تسمحين لي بأن أنقل كرسيك إلى زاوية أخرى من هذه المنضدة؟ فأجابت: لا بأس، فما كاد ينقل كرسيها ويرجع إلى محله، حتى انتصب أمامه إنكليزي واضعاً يديه في جيبه ورافعاً بأنفه نحو السماء، وشرع يلومه على فعلته هذه. وقد ثارت به العنجهية، وبدت إمارات الغضب على سحنته. فحاول الوطني أن يفهمه الأمر، فأبى، فلما برم الوطني به، قال له: اغرب عني الآن، وإلا لقيت مني ما يسوؤك، واعلم أنك غريب في هذه البلاد، فكن أديباً، لم آت شيئاً فرياً، في عرف الآداب الشرقية، والعادات الغربية، فمالك لا تزداد إلا تمادياً في غيّك؟ أتظن أن إنكليزيتك تخولك أن تتعدى حدود الإنسانية مع من أنت في بلاده، والله إن عربيتي أشرف من إنكليزيتك. ولما انتهى العربي من شجاره إلى هذا الحد، أدبر الإنكليزي، وانتبذ زاوية من الردهة، وما هي إلا كما ولا، حتى رأيت ذلك العربي وذلك الإنكليزي، على مائدة واحدة يشربان على شرف الأمة العربية، والعربي يقول: "إن الحديد بالحديد يفلح".
استكانة للاحتلال
السخرية من العربي الفلسطيني الذي أنهى شجاره مع الإنكليزي بجلسة شراب، نجدها في مقطع آخر حول نساء بيت لحم، حيث غمز من قناة الرجال الذين استكانوا للاحتلال البريطاني حين رأى نساء تلك المدينة الفلسطينية يرتدين نوعاً من الطرابيش. إذ يقول: "مما يستدعي النظر في بيت لحم، أن نساءها يضعن على رؤوسهن طرابيش طويلة، ومن فوقها أغطية بيض، وما أظن ذلك عادة حديثة، ولكن يصح أن يُتفاءل بها على نهضة النساء الأخيرة، وتعليق الآمال عليهن بعد أن أخفقت الرجال".
ويعلق أديبنا على منظر رآه في الفندق الذي نزل فيه بالقدس حول ما كان يسمعه عن سكر الإنكليز، فيقول: من الأمثال السائرة قولهم: "سكرة إنكليزية"، فلقد رأيت ذات ليلة، في الفندق الذي نزلت به جماعة من الإنكليز، ما زالوا عاطفين على بنت الحان، حتى خرَّ أحدهم إلى الأرض، وانكب الثاني على وجهه، وكسر الثالث أواني الخمر، وخطر الرابع في البهو، حتى بلغ جوقة الموسيقيين ويقترح عليهم توقيع الأغاني والأناشيد، ويرفع بها جوقة المنكر، إلى أن أزعج الحاضرين، وأيقظ النائمين، فقلت رحم الله الأوقص المخزومي قاضي مكة ليلة أشرف من عليته على ذلك السكران الذي كان يتغنى ويلحن في غنائه فقال له: يا هذا، شربت حراماً وأيقظت نياماً، وغنيت خطأ".
تذلل للأجانب
وفي نهاية الرحلة يتوقف الشاعر مردم بك أمام سوء معاملة موظفي الجوازات مع العرب، وتذللهم أمام الأجانب حيث يقول: "رأيت مفوض السفر في عودتي إلى دمشق، والناس مزدحمة على باب غرفته في القطار، يطلبون إعادة وثائقهم إليهم، بعد أن ظلت عنده أكثر من أربع ساعات، وهو يلهو بحديث مع رفيق له، لا يعطف رأسه نحوهم، بل لا يرد تحية لأحد منهم. ظل الناس كذلك حتى بلغ القطار محطة القدم، فالتفت المفوض، وقال: انفضوا الآن، وخذوا وثائقكم غدا من "أبو رياح" في دار الشرطة، قالوا: ولماذا؟ قال: عساه لم يرها حين خرجتم من دمشق! قالوا: رآها "ورأسك..."، فتململ وأحالهم على شرطي غيره". ويعلق على ذلك: "هذه المعاملة الباردة، عومل بها كل الوطنيين، أما الأجانب، فلقد رأيت الشرطي بعيني رأسي، أتى إليهم في غرفتهم، ووقف بابها بعد الاستئذان، وطأطأ رأسه، ونصب يده عليه، وهجم بصدره، وتقهقر بعجزه، وأطنَّ بمهمازه، تحية واحتراماً وتكرمة وإجلالاً، ثم دفع إليهم وثائقهم وانصرف، فعجبت لذلك، ولكني حمدت الله على قرب الانتهاء من السفر وعنائه".