لا شكّ أن معرض "دكيومنتا" في كاسل الألمانية يُعَدّ، إلى جانب "بينالي البندقية"، أهمّ تظاهرةٍ للفنّ المعاصر في العالَم. فهو الذي يؤكّد على قوّة حضور النجوم في الوسط الفنّي، ويكرّس الفنانين الذين لن يكون بالإمكان تجاهلهم مستقبلاً، كما له الكلمة في تحديد التوجّهات الجديدة، واقتراح مواضيع النقاشات القادمة، إضافة إلى أنه يعطي صورة راهنة عن مدى شعبية المبدعين، من فنّانين، ونقّاد، وقيّمين، وجامعي أعمال فنّية. إنّه "القدّاس" الذي لا بدّ من الاستعجال للمشاركة فيه وجعل الآخرين يرونك وأنت جزءٌ منه. لطالما كان الأمر على هذه الحال، حتى اليوم على الأقلّ.
وقد جرى إسناد نسخة هذا العام من المعرض (النسخة 15) إلى "روانغروبا" (Ruangrupa)، وهي مجموعة إندونيسية مقرُّها جاكرتا. أمرٌ هو الأوّل من نوعه: أن تُسنَد مسؤولية "دوكيومنتا"؛ أوّلاً إلى فنانين، وثانياً إلى فنانين يعملون بشكل جماعي، وثالثاً إلى بلد غير غربيّ. وإذا كانت النسختان السابقتان قد وسّعتا مواضيعهما إلى ما يتجاوز الغرب (في عام 2012، ساءلت القيّمة على النسخة 13، كارولين كريستوف باكارغييف، العلاقات بين الغرب وباقي العالم، وخصوصاً من زاوية الإعلام والمنصّات الرقمية، كما افتُتحت فروعٌ في كابول والقاهرة وكذلك في مدينة بانف الكندية؛ أما في النسخة 14، فقد اقترح آدم سيمزيك برنامجاً دولياً في كاسل وأثينا على حدّ سواء)، فإن هذه هي المرّة هي الأولى التي يتمّ فيها إعطاء الكلمة إلى الأطراف المعنيّة، أي إلى غير الأوروبيين، من المنحدرين من "جنوب المعمورة"، وأهمّ من ذلك إلى أشخاص لا ينتمون إلى دوائر صنع القرار (للتذكير، فإن كارولين كريستوف باكارغييف ــ وهي مؤرّخة فنون أميركية ومديرة "قلعة ريفولي ــ متحف الفن المعاصر" و"مؤسسة فرانشيسكو فيديريكو تشيروتي" في تورينو ــ قد اعتُبرت، عام 2012، كأكثر الشخصيات نفوذاً في عالَم الفن، من قِبَل المجلّة الإنكليزية المعروفة "آرت فيو"؛ أما آدم سيمزيك ــ وهو ناقد فنّي وقيّم من بولندا، فقد وصفته صحيفة "نيويورك تايمز" عام 2011 بأنه "نجمٌ بين القيّمين الفنّيين"، وهو، بحسب آخر الأخبار عنه، يعمل قيّماً مُشاركاً في "متحف ستيديليك" بأمستردام).
ولنقُلْ بضع كلمات عن "روانغروبا": وُلدت هذه المجموعة عام 2000 (أي بعامين فقط بعد انتهاء حكم الديكتاتور سوهارتو). تبتكر "روانغروبا" (وهو اسم يعني "فضاءٌ للفن") مواقفَ يمكن فيها للفن المعاصر أن ينتشر عن طريق المداخلات النقدية أكثر من انتشاره من خلال إنتاج الأعمال. وتجمع هذه المداخلات بين فنانين، وعلماء، وباحثين اجتماعيين، إلخ، يُسائلون سياقات حضرية وثقافية خاصّة، في إندونيسيا أو في بلدان أخرى. وهذا يعني أن الفنان يشارك في إعادة ابتكار وسائل نقدية وممارسات حياتية جديدة، في ظلّ أزمة دولية تزداد فيها نماذجُ الهيمنة قوّةً، رغم أنها سببُ دمار الكوكب واستعباد شعوبه بشكل متزايد.
أوّل مرّة تُسند فيها إدارة المعرض لفنانين غير غربيين
واستجابةً للدعوة التي وُجّهت إليها، استلهمت "روانغروبا" فكرتها لهذه النسخة من تاريخ "دوكيومنتا" نفسه ومن أسباب إنشائه: "إذا كان إنشاء 'دوكيومنتا' عام 1955 قد جاء لمداواة جراح الحرب، فلِمَ لا نفكّر بالنسخة 15 من المعرض انطلاقاً من العلاقة مع جراح اليوم، ولا سيّما تلك المرتبطة بالاستعمار، والرأسمالية، والبنى البطرياركية، ولِمَ لا نقترح، في وجه تلك الجراح، نماذجَ من التعاون تسمح بالوصول إلى رؤية مختلفة للعالم؟".
حول هذه الموضوعات، ووفقاً لطريقة عمل أفقية، دعت "روانغروبا" مجموعاتٍ أخرى قامت، بدورها، بدعوة فنانين آخرين. هكذا، توزّع أكثر من 1700 فنان في مدينة كاسل، مقترحين على الزوّار أن يرافقوهم في التفكير بأبرز المشاكل التي تعاني منها حضارتنا، وأن يستعينوا بتجاربهم وذاكراتهم ليتخيّلوا إمكانية الردّ على هذه المشاكل بفكر نقدي، أو حتى ليجدوا حلولاً لها.
لا تذهب "روانغروبا" نحو المتوقّع، وهو ما قد يكون مصدراً للإرباك في حدّ ذاته: فالزائر ــ الذي عادةً ما يكون في موقع المستهلِك للفن ــ يجد نفسه يتجوّل في فضاء مربك، حيث تبدو أماكن العرض أشبه بالورشة أو بمركز الأبحاث، لا بغاليري فن؛ وبدلاً من المعارض التي تقدّم الأعمال الفنّية في جمودٍ أنيق، من أجل رفاهية المتفرّجين، فإن الزائر مدعوٌّ هنا للمرور في مساحات يشغلها فكرٌ حيّ وغير جامد، يُقترح عليه الدخول في حوار معه. هناك، بالتأكيد، هناك أعمال فنية، لكنّها محاطة بمخطّطات ووثائق وأرشيفات (تاريخية، سياسية، علمية، إلخ) معقّدة أحياناً، تكشف عن سِعة جانبها النقدي وعن قدرتها على مُساءلة حاضرنا.
تستخدم "روانغروبا" نموذجاً، أو باراديغما، متمثّلاً بـ اللومبونغ (Lumbung)، وهو نظامٌ اقتصادي تشاركيّ: عبارة عن كوخ لتخزين الرزّ، يجري فيه توزيع الفائض وفقاً لاحتياجات كلّ فرد. وعندما يعلن فريد راكون ــ وهو عضو في "روانغروبا" ــ أن "الفن هو الحياة"، فإن المقصود هو الإضاءة على ثيمات المقاومة، والصراع، والالتزام (بمعنى أن كلّ علاقةٍ ــ إنْ كانت علاقة بالبيئة، أو بالطبيعة، أو بالمجتمع، أو بالذات أو بالآخر ــ تُلزم المرء، وهذا الالتزام بالآخر قائمٌ، بالتأكيد، على التبادل، ما يؤدّي في الوقت نفسه إلى العطاء، والفرح، والاحتفال). إذاً، فإن "روانغروبا" بنت تصوّرها للمعرض على تشارُكٍ وعطفٍ ثوريّ، أي على الرغبة في التبادل، لكن ليس ذاك التبادل الذي يرتدي قناع العواطف الطيّبة والذي يتعامل به الغرب عادةً مع بؤساء العالم، بل التبادل الذي تجتمع فيه ــ عن حقّ ــ التجارب الخاصّة بكلّ فرد من أجل تفكيرٍ سياسي مشترك).
اجتمعت الطبقة السياسية في ألمانيا على استغلال المعرض
وفي هذا السياق يأتي الاتّهام بمعاداة السامية ليضع موضعَ التساؤل كلّ هذا النظام الذي تقوم عليه نسخة "دوكيومنتا" لهذا العام. وبالفعل: كيف يمكن أن نتخيّل عمليّة تسعى لإنهاء استعمار المخيال لكنّها تضمّ، في صلبها، عملاً معادياً للسامية؟
العمل المعنيّ هنا هو عبارة عن لافتة ضخمة (8×12 م) بعنوان "عدالة الشعوب"، تعود إلى مجموعة إندونيسية أُخرى تحمل اسم "تارينغ بادي" (Taring Padi) ومقرّها في يوغياكارتا. يتقصّد العمل ــ وهو بيان سياسي حقيقي ــ استخدام نوع من الكاريكاتير مخصّص، بشكل أساسي، لرجال السياسة والأعمال والعساكر المجرمين. ومن بين الشخصيات العديدة في هذا العمل التعبيري إلى حد بعيد، يمكننا أن نرى شخصيتين أُريدَ لهما، بلا شكّ، تمثيل أعضاء من السلطة الإسرائيلية... لكنّنا، عند رؤية الصور المدانة، نشعر فعلاً بمزيج من الاشمئزاز والرفض والأسى والغضب لِما يبدو في هذه الصور من ارتباط مباشر بمخيال الرسومات المعادية للسامية والمعروفة جيّداً في أوروبا، والتي أدّت إلى صور البروباغاندا النازية، الشهيرة للأسف.
وإذا كانت هذه الرسومات غير مقبولة، فإنها في الوقت نفسه مُفاجئة، خصوصاً عندما نكتشف عالم هذه المجموعة، المعروض في أحد مسارات "دوكيومنتا": مئات الأعمال (ملصقات، منحوتات، رسومات، جداريات، أقنعة...) التي تدور مواضيعها جميعاً حول تحرّر الشعوب والأفراد، والقضاء على جميع أشكال السلطة الاستبدادية، ومكافحة جميع أشكال العنصرية، ودعم كلّ المهمّشين والمغيّبين، وحرّية اختيار التوجّه الجنسي، والدعوة إلى التمازج الثقافي، ضمن إطار عام يتمثّل بمناهضة الفاشية والرأسمالية… أي أننا أمام مشروعٍ لا يتناسب مع معاداة السامية.
لكنْ، مَن هو مؤلّف هذا العمل، الذي أُنجز قبل 20 عاماً ـ أو بالأحرى، مَن هي هذه المجموعة التي تقول بانتساب العمل لها، باعتبار أن الفنان الذي أنجزه لم يعد حيّاً بيننا اليوم؟ تأسّست "تارينغ بادي" عام 1998، في ظلّ الفوضى التي تسبّب بها سقوط الدكتاتور سوهارتو و"نظامه الجديد" ــ حيث يُعرف مؤسّسو هذه المجموعة بالتزامهم الكبير في الكفاح ضدّ هذه الحكومة الفاسدة والاستبدادية.
ومنذ إنشاء المجموعة، اختار الفنانون والناشطون الإقامة في مدرسة مهجورة، وراحوا يتدخّلون في الفضاء العام عبر أعمال بصرية لاذعة، تمزج بين الفن التقليدي والتصميم الغرافيكي الحديث الذي يذكّرنا بالثقافة الأميركية البديلة وثقافة البانك (Punk) الشعبية. كما راحوا يستخدمون المواد المعاد تدويرها، ويمارسون النقش، والرسومات، والكولاج، واللوحة التشكيلية، إلخ، ويبتكرون أغراضاً، ولافتات، وجداريات، وملصقات... وإضافة إلى الفنون البصرية، فإنهم نشيطون أيضاً في مجالات مثل فنون الأداء، والمسرح، والموسيقى (حيث تمزج أعمالهم بين البانك والروك والتكنو). وهم يقدّمون أعمالهم على حدّ سواء في فضاءات ثقافية وأماكن غير مخصصة للفن، حيث يتقصّدون تملُّك الفضاءات الحضرية ضمن فعاليات غالباً ما يُدعى السكّان للمشاركة فيها.
وبالنظر إلى تاريخ هذه المجموعة، وطريقتها في العمل، وما تقدمه في معرضها في "هالينباد أوست" في كاسل، فإنه يصعب تصوُّر خطابٍ معادٍ للسامية من جانب أفرادها. أمام هذا الاتهام، ردّ الفنانون ونشروا هذا البيان الصحافي على موقع "دوكيومنتا":
"يمثّل تنصيب لافتة 'عدالة الشعب' (2002) حملةً ضد العسكرة والعنف اللذين عانينا منهما تحت دكتاتورية سوهارتو العسكرية التي استمرّت 32 عاماً في إندونيسيا، وضد إرثه الذي ما يزال قائماً حتى اليوم. لذلك فإن تصوير الشخصيات العسكرية في اللافتة يعبّر عن تجاربنا. كما أن جميع الشخصيات الممثّلة في اللافتة تشير إلى رموز معروفة في السياق السياسي الإندونيسي، مثل البيروقراطية الفاسدة والجنرالات العسكريين وجنودهم الذين يُرمز لهم بالخنازير والكلاب والجرذان، من أجل توجيه نقد للنظام الرأسمالي الاستغلالي وللعنف العسكري. عُرضت اللافتة لأول مرة في 'مهرجان جنوب أستراليا الفني' في أديلايد، عام 2002. ومنذ ذلك الحين، عُرضت اللافتة في العديد من الأماكن والسياقات المختلفة، وعلى وجه التحديد خلال فعاليات سياسية واجتماعية، مثل: 'مهرجان جاكرتا لفن الشارع' (2004)، والمعرض الاستعادي لـ'تارينغ بادي' في يوغياكارتا (2018)، و'معرض بوليفوني: فن جنوب شرق آسيا' في نانجينغ بالصين (2019).
'تارينغ بادي' مجموعة تقدّمية ناضلت من أجل دعم واحترام التنوّع. وليس ثمة في عملنا أيّ شيء من شأنه تمثيل المجموعات العرقية بطريقة سلبية. وكلّ الأشكال والأيقونات والرسوم الكاريكاتورية والمفردات البصرية الأخرى في أعمالنا ترتبط ثقافياً بتجاربنا الخاصّة.
إنّ عرض 'عدالة الشعوب' في ساحة فريديريش بلاتز هو أوّل تقديم للّافتة في سياق أوروبي وألماني. ولم يُقصد أن يتمّ ربط اللافتة بمعاداة السامية تحت أي شكل من الأشكال. يُحزننا أن تُفهم تفاصيل من هذه اللافتة بشكل مختلف عن غرضها الأصلي. ونقدّم اعتذارنا عن الضرر الذي تسبّبتْ به في هذا السياق. وبناءً على هذا، فإننا، مع الأسف الشديد، قرّرنا حجْب العمل. بهذا يتحوّل هذا العمل إلى معْلَم حِداد على استحالة الحوار في هذا الوقت. ونأمل أن يكون هذا المعْلَم نقطة انطلاق لحوار جديد".
القول بترادف معاداة الصهيونية ومعاداة السامية يجعل نقد إسرائيل مستحيلاً
وتريد هذه اللافتة أيضاً أن نتذكّر "دعم الديمقراطيات الغربية لصعود دكتاتورية سوهارتو العسكرية بإندونيسيا في سياق الحرب الباردة"، ومن بين الدول الداعمة الإسرائيليون والأميركان والبريطانيون، ولا سيما من خلال أجهزة المخابرات الخاصّة بهم.
قبل إلقاء اللوم على هذا العمل الفني وعلى الذين يقفون وراءه، كنت أتمنّى لو جرى نقاش مع أعضاء من هذا المجموعة ــ كما يقترح الخطّ العام للمعرض ــ، وكذلك مع أشخاص آخرين (فنانين أم لا) من بين الذي وجّهوا الاتهام، ومن المشكّكين ومن المدافعين. ذلك أننا هنا أمام العديد من الإشكاليات المطروحة: ففي ما يخصّ تجاوز المألوف والمسموح به في الفن، هناك سؤال حول ماذا يمكننا أن نقول أو نفعل من الموقع الذي نتحدّث منه وفي ظلّ معرفتنا بالمكان الذي نتوجه إليه (هذا في ما يخصّ البُعد الدولي)؛ وماذا عن استخدام الكاريكاتير وهشاشة موقعه بين الفن والدعاية (وسوء الفهم المتأصّل في هذا النوع)؛ ماذا عن العلاقة بين الفن والسلطة؛ ماذا عن الرقابة، سواء كانت حقيقية (سحب العمل) أو غير مباشرة (تحوير أو إلغاء المعنى)؛ ماذا عن قدرتنا على ترجمة الكلمات، بل وكذلك المواقف والتجارب… كلّ هذه الأسئلة تستحق، أيضاً، أن يجري نقاشٌ حولها لكنْ خارج خارج علاقات الهيمنة ــ في رهان على أنه في عالم الفنون والأفكار لا توجد حدود، بل توجد، فقط، معارك لا بدّ من خوضها في كلّ مرّة تُذكر فيها كلمة "حدود". وقبل كل هذا، ما الذي يمكن أن يفعله الفن في مواجهة صعود القوميات وسياساتها الانفصالية، وفي ظلّ عودة التهويمات العنصرية، والمعادية للسامية، وللإسلام، وللغجر، ولغيرهم…
لكن بدلاً من الحوار، اختارت المؤسسات سياسة عقوبات متتالية: حجب العمل (الذي جرت تغطيته أول الأمر بغطاء أسود، قبل أن يُزال)، وإقالة المديرة سابين شورمان، وتوسيع الاتهام بمعاداة السامية ليشمل كلّ الـ"دوكيومنتا"، والتهديد بانتقاص مهمّ من الميزانية، والتأكيد على تدخّل المؤسسات السياسية في النسخ المقبلة من المهرجان…
وقد اجتمعت الطبقة السياسية البرلمانية في ألمانيا على إدانة المعرض: فبينما قرر المستشار أولاف شولز مقاطعته، أكدت وزيرة الثقافة كلاوديا روت أن "معاداة السامية تبقى معاداة السامية، إن كان ذلك في إندونيسيا، أو تركيا، أو في أي مكان آخر"، وقالت إنه كان على الفنانين أن يأخذوا بعين الاعتبار البُعد التاريخي للبلد المضيف. وهذا ما لا شكّ فيه. لكنّ المُحزن هو عدم استحضار الطرف الآخر من القضية: أن ألمانيا، وأنه في الغرب بشكل عام، علينا أيضاً أن نأخذ بعين الاعتبار تاريخ البلاد التي ينحدر منه الفنانون، أن نعرف أكثر عن المآسي التي تتشكّل منها ذاكرتهم، وعن الطريقة الفريدة التي يعيدون من خلالها ابتكار لغة للتعريف بهذه الذاكرة. وليس المقصود هنا التقليل من خطورة ما لا يُقبل، أو التفكير بعقلية المقارنة أو حتى ــ وهو أسوأ ــ التفكير بشكل هرميّ وحسب الأولويات (ليس ثمة ترتيب هرمي في ما يخصّ الخزي والعار)، بل المقصود التفكير بخصوصية كلّ موقف وفرادته، ومحاولة الخروج من منطق الفصل إلى حاضر نعيشه سوياً، وإلى رغبة مشتركة في المستقبل. أليس هذا ما يعلّمنا إياه اللومبونغ (Lumbung)؟
عبر عملها بمنطق الرقابة والمنع لمجموعة كاملة من الفنانين، ورفضها كلّ منطق آخر، تكون الحكومة الألمانية ــ ومعها عدد من البلدان الغربية، ومنها فرنسا ــ قد اختارت الهجوم السياسي:
1. عبر تعزيز الخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، إلى درجة تؤكّد معها وجود ترادف بين هذين المصطلحين ــ وهو ما يجعل أي انتقاد للسياسة الإسرائيلية مستحيلاً، ولا سيّما في الفن. علاوة على أن هذا الخلط يعزّز علاقة الغربيين بالمفاهيم التوسّعية والاستعمارية، وهي القاعدة التي بنى عليها الغرب اقتصاده وقوّته؛
2. عبر تجريم "حركة المقاطعة" (وهي رابطة لاعنفية للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، أُنشئت على غرار سياسة العقوبات التي عُمل بها خلال فترة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا) وتجريم كلّ موقف معادٍ للصعيونية، وخصوصاً المواقف الفنية؛
3. عبر فرض الرقابة السياسة في حقل الإبداع والأفكار، وعبر التأكيد على الانفراد بإدارة شؤون الفن المعاصر وتوجّهاته في المرحلة المقبلة.
4. عبر ممارسة نوعٍ من الإنكار: فتاريخ معاداة السامية هو، في جزء كبير منه، قضية أوروبية، وذلك منذ العصر الوسيط (هل نسينا أن أوّل مرة جرى فيها إجبار اليهود على ارتداء ما يميّزهم عن البقية كانت بأمر من البابا إنوسنت الثالث، خلال القرن الثاني عشر؟)، وهو ما يزال مستمرّاً تحت أشكال أُخرى، أكثر انحرافاً بلا شكّ (لا أحد يتذكّر الفضيحة التي وقعت خلال النسختين الثانية والثالثة من "دوكيومنتا"، اللتين أدارهما النازي فيرنر هافتمان؛ تقول مورغان فالتر، التي دافعت عن أطروحة دكتوراه حول التلقّي النقدي للفن التجريدي في ألمانيا الغربية بين عامي 1945 و1964: "بالنسبة إلى الشخصيات المحافظة جداً مثل هافتمان، فإن الظهور بمظهر مَن يؤيد الفن التجريدي يعني تقديم اعتراف به، وتبديدَ كلّ الشكوك". وتُضيف: "كشف الباحثون، لدى 10 من بين المؤسّسين الـ21، إمّا عن عضوية في "حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني" ــ وهو حزب هتلر، الذي كان الانتماء إليه إجبارياً أحياناً، حتى ولو أراد المرء الكتابة في مجلّة ــ أو عن انخراط في صفوف 'كتيبة العاصفة' أو في صفوف 'وحدات الأمن الخاصّة' النازية. وليست 'دوكيومنتا' استثناءً في هذا، حيث أُدخل في دوائرها الإدارية والسياسية عددٌ كبير من المنتمين إلى النخبة النازية، من قِبَل جمهورية ألمانيا الاتحادية").
ثمة ضرورة للخروج من منطق الفصل إلى حاضر نعيشه سوياً
والأمر نفسه ينطبق على فرنسا والنخبة المتعاونة فيها مع النازيين، حيث جرت إعادة تأهيل أعضائها الرئيسيين في فترة ما بعد الحرب في مجالات الاقتصاد أو السياسة أو الإدارة (نتذكر رُنيه بوسكيه، رئيس شرطة فيشي الذي جرى، تحت مسؤوليته، ترحيل 60 ألف يهودي، والذي عاد في أعقاب الحرب ليصبح رجلَ أعمال مؤثّراً، وقد كان، على وجه الخصوص، صديقاً للاشتراكي فرانسوا ميتران، حيث قام بتمويل حملته الانتخابية عام 1974؛ كما نتذكّر موريس بابون، الذي كان أيضاً موظّفاً في حكومة فيشي، والذي واصل حياته المهنية في الإدارة الفرنسية وأصبح محافظاً في الجزائر الفرنسية ثم في باريس، وقد ارتُكبت تحت مسؤوليته تلك المذبحة بحقّ 120 جزائرياً في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1961).
ومثل هذين المثالين سيّئَيْ الذكر، كم لدينا من الأشخاص الذين استطاعوا التمتُّع بإفلاتهم من العقاب؟ وهل علينا أن نذكّر التواطؤ بين أحزاب اليمين المتطرّف الأوروبية، المولودة من الرحم التاريخي لمعاداة السامية، وبين الحكومة الإسرائيلية؟ هناك نفاق كبير عند هذه الشخصيات ذات النفوذ، والتي تُسارع إلى الظهور بمظهر الأشخاص المدافعين عن العدالة، مستعينةً بالإنشاء والكلمات المنمّقة وبالتهديدات، في حين أن تاريخهم بأكمله ليس إلّا سلسلة من المساومات؛ وهل من الضروري أن نذكّر أن هذه الحكومة الألمانية نفسها، التي تلعب دور مَن يتعرّض للإهانة والإساءة، كانت تجمعها أفضل العلاقات بالديكتاتور سوهارتو، الذي سيقوم، عند تولّيه السلطة، بحملة تطهير تسبّبت في سقوط مئات الآلاف من الضحايا، وهو ما اعتبره تقرير لوكالة المخابرات المركزية الأميركية واحدة من أكثر مذابح القرن العشرين مأساوية وإهمالاً.
في تحوير تهكّمي للشعار الشهير "حياة السود مهمّة"، يمكن لنا أن يقرأ على أحد الجدران في كاسل: "أكاذيب البِيض مهمّة"...
هكذا، ينضاف إلى الاشمئزاز الذي تسبّبت به تلك الرسومات اشمئزازٌ من استخدامها سياسياً من قِبَل الحكومات الغربية؛ استخدامٌ يتسبّب، على ثلاث مراحل، بـ: تعميق صعوبة النقاش بين الجنوب والشمال؛ تعزيز تضامن القوى الغربية حول سياسة الفصل العنصري التي تطبّقها إسرائيل في فلسطين؛ تعزيز إنكار معاداة السامية ــ ماضياً وحاضراً ــ في أوروبا.
الخسارة كبيرةٌ جدّاً.
هل هذه الرسومات علامة على توجّه معاد للسامية، أم نتيجة لسوء تصرّف مريع؟ وإذا كانت الرسومات، في الحالتين، غير مقبولة، فإن الفرق بينهما يستحق الملاحظة: فالنقاش مستحيلٌ في الحالة الأولى (إذ لا يمكن أن تكون العنصرية موضوعاً للنقاش، بل فقط للكفاح)؛ أمّا في الحالة الثانية، فالحاجة ملحّة للجلوس في لومبونغ، ولفتح نقاش مستمرّ بيننا (وهنا، علينا إعادة تعريف هذه "النحن" التي تجمعنا)، بعيداً عن التدخّل الكارثي لحكومات منافقة ومجرمة، سعياً لأن نقوم سوياً ببلورة "صيرورة جديدة للوعي"، كما يقول جيل دولوز.
وهنا، في الختام، مقتطف من مقال نُشر في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية: "لا شكّ أن الأسئلة التي يثيرها هذا المعرض ذات أهمّية عالية، وقد حان الوقت لمناقشتها. لكن، للأسف، يبدو أن هذه الأسئلة قد غُمرت في ألمانيا بسحابة من الغبار الذي أثارته فضيحة الصور التي جرى النظر إليها بوصفها معادية لإسرائيل ومعادية للسامية".
* Laurent Cauwet كاتب وناقد وناشط ثقافي فرنسي