"ثمّة مظالم في هذا العالم لا تُعدّ ولا تُحصى. ولكن في فلسطين يحدث أعظم ظلمٍ رأيته بعيني. لهذا السبب كرّست نفسي لها، كي أحاول المساعدة في ألّا يستمرّ هذا الظلم، كي أحاول، جيلاً بعد جيل، أن أسهم في ألّا يَختبر شخص ما معنى أن يفقد حياته تحت أسلحة أو قصف من سرق أرضه، من احتلّها، ولا يزال يسلبها، كي أحاول أن أسهم في كشف المزيد من المعايير المزدوجة والنفاق في الشمال العالمي"، بهذه المقدّمة، يبدأ الأكاديمي الإسباني خورخي راموس تولوسا كتابه "فلسطين في النظريات الإبستمولوجية الجنوبية"، الصادر عن "مركز الدراسات الاجتماعي" في بوينس آيريس عام 2022، والذي يحاول فيه تسليط الضوء على فلسطين بوصفها قضية تاريخية ذات أهمية كبرى في فهم السياسات العالمية الشمالية والجنوبية.
يبدأ تولوسا كتابه انطلاقاً من أنّ فلسطين لا تزال في قلب الأجندة الإعلامية والسياسات الدولية المخُترَقة من قبل نظريات المعرفة الشمالية، والتي على حدّ تعبيره "تسيطر عليها مؤسّسات إعلامية اقتصادية قويّة". إذاً، فلسطين هي رهينة هذه المؤسّسات التي تحتكر السردية، وبالتالي فإنّ القضية الفلسطينية تعيش في سجن يمكننا أن نسمّيه سجناً معرفيّاً لا يزال يشكّل حاجزاً أمام فهم قضيتها، خصوصاً في المؤسّسات التابعة للشمال الأطلسي.
كيف نتكلّم عن فلسطين إن لم نعرف كيف نوضّح معنى الصمود؟
ويرى الأكاديمي الإسباني أنّ هذا "السجن المعرفي" يتُرجَم، بشكل رئيسي، في حجب المظالم التي يعيشها الفلسطينيون يومياً، وفي إخفاء ما يمارسه نظام الفصل العنصري ضدّهم منذ عام 1948 في هذه المؤسّسات الشمالية، التي تحتكر نظرية المعرفة، ويطغى عليها الاستشراق والعنصرية والعنف المعرفي الذي يستلزم الإسكات المنهجي للأصوات الفلسطينية والمعرفة والنضالات والرؤى العالمية.
هكذا، بهدف كسر هذه الهيمنة المعرفية الشمالية، يقارب تولوسا القضية الفلسطينية انطلاقاً من النظريات المعرفية الجنوبية، التي يُدخِل ضمن مبادئها الأساسية معرفة العالم وتفسير قضاياه بشكل يتجاوز المعرفة الأوروبية المركزية وتفسيراتها. وبتطبيق هذا الأمر على القضية الفلسطينية، نُحرّر فلسطين من هذا السجن المعرفي الذي وضعها الشمال فيها.
وعلى الرغم من صغر حجم الكتاب (120 صفحة)، إلّا أنّه يأتي في سياق حرب السرديات، حيث يمكن وصفه بأنّه مشروع لإنهاء استعمار القصص، ولتفكيك المفاهيم وفضح الأساطير. ومن أجل هذا، قسّم صاحب "تاريخ معاصر للصراع الفلسطيني الإسرائيلي" عمله إلى قسمين: "تاريخ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني" الذي يفكّك فيه السردية الصهيونية المتعلّقة بـ"أرض الميعاد"، ثم يسرد أحداث النكبة الفلسطينية شارحاً مجريات الأحداث بتفاصيل دقيقة، لأنه وكما يقول "هناك جهل كبير حول القضية الفلسطينية، وهذا تحديداً ما تعمل نظريات المعرفة المركزية والشمالية على نشره. لذلك لا بدّ من سرد القضية مع أدقّ التفاصيل في مواجهة هذا التعتيم والحجب"، ثمّ يتناول نظام الفصل العنصري، وجدار الفصل، وقتل الأطفال، وصولاً إلى نظريات إنكار الوجود الفلسطيني التي يُشتغَل عليها من قبل المؤسّسات الإعلامية التابعة لمراكز "المعرفة الشمالية" على حدّ تعبير الكاتب.
القسم الثاني من الكتاب يُخصّصه تولوسا لتسليط الضوء على تلك المصطلحات والمفاهيم الموجودة في قلب النظريات الإبستمولوجية الجنوبية، والتي تصعب، أو لا تمكن، ترجمتها إلى لغات الشمال ووجهات النظر العالمية، ويأخذ مثالاً على ذلك مصطلح "الصمود"؛ حيث يقول: "لا يمكن إيصال جوهر القضية الفلسطينية إلّا إذا عرفنا كيف نشرح هذه المصطلحات والمفاهيم المرتبطة بتاريخ فلسطين. فكيف يمكن أن نتكلّم عن فلسطين، إن لم نعرف كيف نوضّح معنى الصمود؟".
يثير كتاب الباحث الإسباني الانتباه من حيث جرأته على تعرية الصهيونية، وعلى كشف مركزية أوروبا والشمال، بشكل عام، وتبنّيها سردية "إسرائيل" حول فلسطين، وهي جرأة نادرة في الغرب، لا سيما في ظل حرب الإبادة التي تشنّها "إسرائيل" ضد الشعب الفلسطيني، وما يرافقها من اتّهامات بـ"معاداة السامية" لمن لا يوافقها في سرديتها الكاذبة.