عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر حديثًا كتاب "المناخ والحضارة: بلاد الرافدين نموذجًا" للأكاديمي والباحث العراقي خميس دحام مصلح السبهاني، وفيه يناقش العلاقة بين المناخ والحضارة في بلاد الرافدين خلال ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، ليخلص إلى أنّ المناخ كان العامل الحاسم في توجيه مجتمعات بلاد الرافدين.
يعزو السبهاني اختياره بلاد الرافدين نموذجًا لدراسة تلك العلاقة إلى سببين؛ أوّلهما أنّ هذه المنطقة انتقاليةٌ تتلاقى فيها الأنماط المناخية العالمية المختلفة، مصحوبة بالتنوّع الطوبوغرافي؛ ما يؤدّي إلى تنوّع أنظمتها المناخية زمانيًا ومكانيًا، ويجعل أيّ اختلال في التوازن يقود إلى تغيرات مناخية حرجة.
أمّا السبب الثاني، فهو أنّ بلاد الرافدين تُعدُّ مهد الحضارات الإنسانية الأولى الناضجة في جميع جوانبها المادية، والعماد الاقتصادي لهذه الحضارات هو الزراعة والإنتاج الزراعي، وأيّ تغير في المناخ له تأثيرات مباشرة في الإنتاج وما يتبعه من تأثيرات في الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية، وأخيرًا السياسية.
دور محوري للمناخ في نشأة حضارات بلاد الرافدين ونضجها وانهيارها
بعد فصل خصّه للواقع الجغرافي لبلاد الرافدين وما يجاورها وآخر عن الظروف المناخية وتغيراتها، ينتقل المؤلّف إلى الحديث عن "التغيرات المناخية ومراحل تطوّر المجتمعات البشرية في بلاد الرافدين"، مشيرًا إلى وجود دور محوري للمناخ في نشأة الحضارات في بلاد الرافدين ونضجها ثم انهيارها، سواء كان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
ويوضّح بأنّ الطريقة المباشرة كانت أكثر وضوحًا في المناطق التي تعتمد في اقتصادها على الزراعة الديمية (البعلية)، ممثلة بشمال بلاد الرافدين، وكان لأي تغير في كمية الأمطار الساقطة انعكاس مباشر على كمية الإنتاج الزراعي ونوعه سلبًا أو إيجابًا، ومن ثم انعكاسه على استقرار المجتمعين الزراعي والرعوي وعدم استقرارهما على حدّ سواء.
أمّا التأثير غير المباشر، فيضيف بأنّه يتمحور في جنوب بلاد الرافدين بشكل أوضح؛ إذ أنّ الانخفاض في كمية الأمطار ساهم في ارتفاع أعداد السكان في مدن الجنوب، القادمين من المناطق الهامشية المحيطة وخصوصًا من الشمال، نتيجة المجاعات التي خلّفها فشل المحصول هنالك، بشكل يفوق طاقة الزراعة المروية. يضاف إلى ذلك انخفاض إنتاجية الأراضي الزراعية المروية نتيجة ارتفاع نسبة الملوحة فيها؛ ما أدى إلى تفكّك المجتمعات، وانهيار كامل للكيانَين السياسي والإداري، وأخيرًا اندثار الحضارة، والعكس كان واضحًا.
يلفت الكاتب إلى ظهور ثلاث مدد زمنية شهدث تأثيرًا إيجابيًا للمناخ في الهيكل الحضاري، اثنتان منها شهدتا تحسّنًا مناخيًا كبيرًا؛ إذ ارتفعت كمية الأمطار الساقطة، ورافق ذلك زيادة التعقيد في البنية الاجتماعية والسياسية للمجتمعات البشرية حتى وصلت إلى مستوى الإمبراطورية العظمى، ومركزها في بلاد الرافدين، وخضعت لها مناطق الشرق الأدنى كلها وصولًا إلى أواسط آسيا، وتحكمت في جميع الخطوط التجارية الرئيسة في العالم القديم.
ويضيف بأنّ هاتين المدّتين شغلتا معظم الألفية الثالثة والأولى ق.م؛ إذ بدأت الأولى في القرن التاسع والعشرين ق.م، وانتهت في القرن الثالث والعشرين ق.م، في حين امتدت الثانية من القرن التاسع ق. م إلى نهاية القرن السادس ق. م تقريبًا، وشملت كلتاهما ظهور الإمبراطوريات العظمى في تاريخ العراق القديم "السومرية "عصر السلالات الأولى"، والإمبراطورية الأكدية، والإمبراطورية الآشورية الحديثة، فضلًا عن الإمبراطورية البابلية الحديثة).
أمّا في ما يتعلّق بالمدة الثالثة، فعلى الرغم من تحسن المناخ تحسنًا واضحًا، وظهور المجتمعات ذات التعقيد في التركيب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي فيها، متمثلة في سلالة بابل الأولى أو ما يُعرف بمدة حكم حمورابي، والعهد الكيشي والسلالة الآشورية المتوسطة، فإنها لم تصل إلى مستوى المدّتين السابقتين، لا من حيث مستوى التحسن في المناخ، ولا من حيث التعقيد الاجتماعي وحجم الإمبراطوية وقوّتها.
وتمثّل الجانب السلبي لميكانيكية العلاقة، في ظهور مدتين بارزتين شديدتي الجفاف في بلاد الرافدين وإقليم شرق البحر المتوسط والشرق الأدنى كله أيضًا، بالتزامن مع انهيار كامل للمجتمعات الحضرية في بلاد الرافدين حتى أُطلق على المدتين ما يُعرف بـ "العصور المظلمة"، فشملت المدة الأولى نهاية الألفية الثالثة وبداية الألفية الثانية ق. م، في حين شملت المدة الثانية نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الأولى ق. م.
تحكّم المناخ بشكل غير مباشر في انتقال مراكز الحضارة بين أقسام بلاد الرافدين
احتوت المدتان شديدتا الجفاف المشار إليهما سابقًا، فاصلتين لا يتجاوز زمن الفاصلة الواحدة منها قرنًا واحدًا، يشهد فيهما المناخ تحسنًا كبيرًا، متبوعًا بانتعاش حضاري بارز؛ إذ اقترنت الفاصلة الأولى - من وجهة النظر التاريخية - بظهور إمبراطورية أور الثالثة، "الانبعاث السومري"، في حين اقترنت الفاصلة الثانية بانبثاق المملكة الآشورية الوسطى، وعصر تجلات بلاسر الأول.
وتحكّمت الظروف المناخية تحكمًا غير مباشر بانتقال مراكز الحضارة بين أقسام بلاد الرافدين من الجنوب إلى الشمال، على شكل مراحل متباعدة كالآتي: في المرحلة الأولى، انتقل مركز القيادة السياسية والاقتصادية من السهل الجنوبي إلى وسط بلاد الرافدين (بابل) في حدود القرن التاسع عشر ق. م، وما عاد إلى جنوب بلاد الرافدين إطلاقًا، على الأقل خلال مدة الدراسة، بعد أن كان موقعه يراوح بين الجنوب والوسط. وجاء هذا الانتقال بعد أن تدهورت إنتاجية الأراضي الزراعية في جنوب بلاد الرافدين نتيجة تشبعها بالملوحة الناجمة عن التدهور المناخي، كما بيّنا آنفًا، والتي لم تتعافَ منها بعد هذا التاريخ.
أمّا الانتقال الثاني، فكان متزامنًا مع توثيق ذروة الملوحة الثانية، حيث أثبت وجودها في الأراضي الزراعية ضمن إقليم بابل في وسط بلاد الرافدين في بداية عام 1300 ق. م؛ إذ لاحظنا انتقال المركز السياسي من مدينة بابل إلى مدينة آشور في شمال بلاد الرافدين، وما عاد إلى وسط بلاد الرافدين حتى نهاية القرن السابع ق.م نتيجة الازدهار الزراعي في إقليم بابل، والذي نتج من سيادة المناخ الأمثل لمدة طويلة من الزمن، وساهم في تقليل نسبة الملوحة هنالك.