أين تبدأُ ثقافة ما وأين تنتهي؟ وما دور السلطة في فرض أنماط معرفيّة معينة وتهميش أخرى؟ يشكّلُ ربما هذا السؤال المتشعب لبّ النقاش الذي يدور حولهُ الكتاب الأخير للناقد السوري خلدون الشمعة (1941)، والذي جاء تحت عنوان "كعبُ أخيل: النقد الثقافي والنقض المعرفي" (دار خطوط وظلال، 2021). هذا العنوان المبهم من جهة والمليء بالإيحاءات النقديّة والمعرفيّة من جهة أخرى يحتوي على تأملات في محطات معرفيّة وأدبيّة هامة أَثَّرت في فهم الناس في العالم العربي للغرب وإنتاجاته الأدبية والمعرفيّة في آن واحد.
هناك نقطتان يجدر أن نبدأ منهما مقاربة الكتاب: أوّلاً، لا بدَّ من النقَض المعرفي والنقد الثقافي كطرق فكريّة لفهم النقد الأدبي بوصفِ الأخير نتاج الثقافة والأنماط المعرفيّة السائدة، أما النقطة الثانيّة فتتعلق بما يسمى بالمركز والهامش، أي المركز الذي يمتلك القوة وبالتالي أدوات تشكيل الرأي والذائقة العامة المعرفيّة والأدبيّة والسياسية إلى آخره، والهامش الذي يستهلك المعرفة من المركز ويعيد إنتاجها وكأنّها الطبيعة السائدة الأفضل.
فُرض على العرب أن يتذكّروا هشاشتهم باستمرار أمام الغرب
تشكل هاتان النقطتان المحورين الأساسيين للكتاب الذي بين أيدينا، حيثُ يعرجُ الكاتب على نصوص أدبية وثقافية وفلسفيّة وغيرها لكي يوضّحهما ويُثري النقاش من خلال نقض معرفي مغاير لما هو سائد. وهنا لا بدَّ من تسجيل نقطة نقديّة أنَّ الكتاب لا يناقش بشكلٍ شامل وكاف لكي تأخذ بعض النقاط وضوحاً أكثر، وتتضح معالم الأطروحات المقدمة، ومن هنا فإن القراءة المقدّمة تبدو أحياناً قراءة اِستشفافية اِستنباطيّة أكثر منها قراءة من صلب النص. فهناك انتقاء يميل أحياناً إلى شيء من التعسف في ما يتعلق باتجاهات فكريّة مهمة كالتي طرحها طه حسين وأدونيس ومحمد عابد الجابري بخصوص تحديث العالم العربي في ضوء الأزمات الثقافيّة والسياسيّة المدّمرة التي تعصفُ به منذ زمنٍ طويل. كما يستندُ الكتاب في كثير من طروحاته على نماذج معرفيّة متنوعة، أبرزها تلك التي أسّسَ لها إدوارد سعيد في كتابات كثيرة، مثل مفهوم البداية ونقيضها الأصل، والمركز السلطوي والمعرفي والهامش المُستغل معرفيّاً وسياسياً.
ويبدأ التنظير من عنوان الكتاب "كعبُ أخيل"، وهذا يحيلنا إلى الأسطورة اليونانية الشهيرة حيث لم يلامس كعبُ أخيل الماء حين وضعته أمه في "نهر الجحيم" فيبقى دائماً يتذكر نقطة ضعفه وهشاشته أمام نفسه والعالم. وهكذا العالم العربي فُرضتْ عليه أنماط معرفيّة كثيرة جعلته يتذكّرُ هشاشته باستمرار أمام الغرب الأوروبي والأميركي، وكأنه لم يكنْ رائداً أيّما ريادة في صناعة وإبداع أنماط معرفيّة مهمة ومؤثرة إلى اليوم.
ولنأخذ كما الكتاب هنا مفهوم العولمة، وبحسب الفهم الشائع فهو يعني أن العالم أصبح قرية صغيرة بفضل وسائل الاتصالات الحديثة. لكن العولمة كمفهوم تتضمّن وجود مركز وهوامش، أيّ أنَّ هناك من يتحكمون بالعولمة ويحركونها وهناك من يستهلكونها دون أن يكونَ لهم دور فيها. هنا يطرح الشمعة رأياً مفاده أنَّ العولمة هي شيءٌ قديم، وَكُتبُ بعض المفكرين العرب القدامى، خصوصاً ابن فضلان، وكذلك ابن مسكويه وغيرهما تزخرُ بالمعرفة والتواصل والفهم عن حضارات كثيرة ومترابطة، ولكن لا أحد يولي أهميّة للعولمة التي أوجدتها الحضارات الإسلاميّة التي امتدت إلى مساحات شاسعة وعمّرت طويلاً.
يأخذنا بعد ذلك الكاتب إلى رحلة يقرأُ فيها أصول الحضارات المتقدمة، والاستشراق، والثابت والمتحول في الثقافة العربيّة، وأصل الرواية، والشعر الرومانسي، وغيرها من الأفكار المهمة لفهم موقع العرب والعالم العربي والتراث العربي لنكونَ أكثر دقة إزاء عدة قضايا تعبر عالمنا. يرى المؤلف أنَّ للعرب في مراحل مختلفة من تاريخهم باعا أصيلا في الاكتشافات المعرفيّة والأدبيّة التي استفاد منها الغرب ثمّ احتكرَ "أصولها" لنفسه. وكما يكتبُ الشمعة، "فقد قرأت الحضارة الأوروبية في القرن التاسع عشر، قرأت نفسها قراءة نرجسية كحضارة عقل مطلق، حضارة قوة مالئة للفضاء المعرفي، وأما الآخر، النقيض، فهو الإسلام الذي صنعه الاستشراق، وعلاقته التبادليّة مع اللغة العربية". ومن هنا فإن كافة النشاطات المعرفيّة والثقافيّة الأوروبية كتلك التي أنتجها دانتي، وت.س. إليوت وغيرهم لها أصداء أصيلة في الثقافة العربية، ومع هذا فإن التاريخ الأدبي الأوروبي يطرحُ نفسه جزافاً كمؤسّس وأرضيّة معيارية لكل الثقافات والآداب الأخرى.
قرأت الحضارة الأوروبية الحديثة نفسها قراءة نرجسية
لا تأتي قراءة الماضي العربي من أجل إعادته وكأنه شريط "طبق الأصل" عمّا هو حديث، ولكن محاولة للإنصاف وإعادة تموضع الفهم. وفي هذا السياق، لا يبدو التراث اليوناني حكراً على أوروبا أو أوروبياً بالأساس، بل خليط آسيوي وأفريقي لمصر والعالم القديم نصيبٌ فيه أكثر مما لأوروبا بمفهومها الحديث خصوصاً خلال القرن الثامن عشر وما بعده حيثُ صُوّرت اليونان وكأنها منبع الفكر الإنساني وكلّ ما جاء بعدها ما هي إلا مشتقات هامشيّة.
إذن تأتي قراءات خلدون الشمعة لقلبِ الطاولة المعرفيّة، إذا جاز التعبير، ولإعادة الاعتبار لحقائق يتمّ تجاهلها وتهميشها، وكأنّه يريدُ أن يقولَ ما قاله الشاعر المارتينيكي إيمي سيزير عن استحالة احتكار عرق ما للجمال أو الذكاء أو القوة.
يقدّم الشمعة أيضاً قراءات ناقدة لكتّاب عرب مثل طه حسين وأدونيس ومحمد عابد الجابري، الذين كانوا بصورة أو بأخرى يعيدون إنتاج المعرفة الاستشراقية دون نقد معرفي وثقافي شامل للأنظمة المعرفيّة المهيمنة التي تهمّش الآخر وتمعنُ في استبعاده كفاعل أساسي في "الثقافة الأوروبية" القديمة والحديثة معاً، مع العلم أنّه لا يوجد "ثقافة أوروبية" موحدة ومتجانسة وعابرة للأزمان كما يصورها المروجون لهذه الحضارة المعقدة.
أما تصوير الحضارة العربية والإسلامية وكأنّها "حضارة الفقه" فهو اختزال غير موفق لحضارة ثريّة كانت رائدة في أوقاتٍ كانت فيها أوروبا هامشاً معرفياً، وبالتالي فإن هذه التصوّرات "تهدفُ إلى تعزيز الاستيهامات الغربية للمركزية الإثنية الأوروبية"، أيِّ إلى تصديق ما قاله المستشرقون عن العرب وأدبهم وحضارتهم.
لكن أجدُ نفسي أمام أطروحة غير مُقنعة في ما يتعلق بقراءة الشمعة لأفكار طه حسين وأدونيس ومحمد عابد الجابري وكثير من المُحدثين العرب. فهي تتجاهل بدرجة ما سياق الأزمات السياسيّة، والتي لها أصداء اجتماعيّة وثقافيّة كبيرة في العالم العربي، حيثُ لا يكفي الرجوع إلى أمجاد الماضي الأدبيّة والفلسفية للتغطية عليها ولتجاوزها. وهذا ما يتطرق إليه الكُتّاب الروّاد في أطروحاتهم الغنيّة. فكما يطالب المؤلف ضمناً العالم الغربي بالاعتراف بالأصول العربيّة لبعض الأفكار التي شكّلته وطورته، لا بدَّ أيضاً من الاعتراف بالأزمات الشديدة التي تحتاج إلى تفكير وتمحيص في الأعطاب الداخلية ونتائجها الكارثية على العالم العربي، والتي تشمل قراءته وفهمه لتراثه.
في الخاتمة، يعطي خلدون الشمعة نماذج لكتّاب عرب مثل الطيب صالح وجورج طرابيشي، استطاعوا ممارسة النقد وتقديم فكر خلاّق يتجاوز المركزيّة الأوروبية واستعلاءاتها، ولا ينبذ القديم لحساب الحديث أو العكس، فهو نقد عضوي فعاّل عابر للمكان والزمان معاً. وفي تلك النماذج مشاعل يُهتدى بها للإنارة والتنوير الإنساني والعربي في آن واحد. وهنا نكرّر ما قاله الشاعر المارتينيكي إيمي سيزير على سبيل تلخيص روح الكتاب وكتحيّة للمؤلف على إضاءات مهمة في أوقات يزدادُ ظلام الليل حلكةً عالمياً وعربياً: "لا يوجد عرق يستطيع أن يحتكرَ الجمال أو الذكاء أو القوة، وهناك مكانٌ للجميع حينَ يحينُ النصر".
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن