ختام ندوة "تبيّن": الحقُّ في التبرير والمحافظون و"الإسلام الليبرالي"

15 مايو 2022
من ندوة "الفلسفة السياسية المُعاصرة: القضايا والتحوّلات" في يومها الثاني والأخير
+ الخط -

طرح أربعةُ باحثين، اليوم الأحد، في ختام ندوة دَوريّة "تبيُّن" للدراسات الفلسَفية والنظَريات النقدية، في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالدوحة، تحت عنوان "الفلسفة السياسية المُعاصرة: القضايا والتحوّلات"، أوراقاً تناولت النظرية النقدية للعدالة، والفلسفة المحافظة، وتحقيب الفكر السياسي العربي، وأنطولوجيا الإسلام الليبرالي.

في مستهل المحاضرات، تناول محمد الأشهب، أستاذ فلسفة اللغة والفلسفة السياسية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بـ"جامعة ابن زهر" في المغرب، النظرية النقدية للعدالة في سياق التبرير، نموذج راينر فورست. والأشهب لديه اهتمام بالنظرية النقدية منذ أكثر من عشرين عاماً. وفي اهتمامات متأخّرة، اشتغل حول نموذج النظرية النقدية لدى أستاذ النظرية السياسية الألماني راينر فورست، الذي مثّلت العدالة وحقّ التبرير، أحد أبرز الانشغالات في مباحثه.

جال الباحث على جملة من النقاط يمكن لمشهد "الأمّ والكعكة" الذي استعمله فورست أن يضيء ويبسّط النظرية النقدية للعدالة، والسؤال بالتالي عن العدالة التوزيعية، ونصيب الجميع في المجتمع من هذا الحق. فالأُم، بحسب مقالة فورست، تريد تقسيم الكعكة بين أبنائها، وهذا مشهد بدئي يلخّص نظريات العدالة، تبعاً لحاجات كلّ ابن من الكعكة. بيد أن فورست يطرح السؤال في صياغة مختلفة، مفاده أنّ الإشكال الأساسي في العدالة هو الأم. من هي؟ كيف تقرّر وعلى أيّ أساس توزّع الكعكة؟ أي بمعنى أنّ السلطة وتبريرها يجب أن تواجَه بالسؤال حين يقع الحديث عن العدالة.


تبرير السلطة

ووفقاً لما يضيف الأشهب، الذي قدّم ورقته عن بُعد، فإنّ الفكر السياسي في التاريخ ظلّ مرتبطاً بمسألة أساسية هي تبرير أو تسويغ السلطة، وبقي مهيمناً لفترة طويلة على الفلسفة السياسية. فإذا كان تاريخ هذه الفلسفة هو تاريخ لتسويغ السلطة، فالمنظور النقدي لدى فورست يعالج سلطة التبرير لا تبرير السلطة.

لكن، بما أنّ مثل هذه الطروحات في مجتمعات قطعت أشواطاً بعيدة، في تقديم المزيد والمزيد من الطروحات المشتبكة والمتراكمة، فإنّه تطرّق أخيراً إلى أنّ الأمر - مع اندلاع ثورات الربيع العربي - كان متقدّماً على الطرح الفلسفي الضعيف، حين اقتحم الفضاء العمومي المصادر أصلاً، رافعاً لافتات الكرامة والحقّ في المشاركة والعدالة.

وعليه، فإنّ السؤال يكون: ما قيمة نظرية العدالة في مجتمع مغلق والحقُّ في المشاركة في تقديم رأي حول السردية القائمة مقموع؟ إذن، لا يتعلّق الأمر بالحق في التبرير، كما يمكن لفيلسوف غربي أن يطرح، بل بالصراع من أجل الحق في التبرير، حسبما قال.


الفلسفة المحافظة والتقصير

يذهب منير الكشو، أستاذ الفلسفة الأخلاقية والسياسية في "معهد الدوحة للدراسات العليا" بالدوحة، في ورقته "الفلسفة المحافظة والنقد الراديكالي للحداثة السياسية"، إلى أنّ ثمّة تقصيراً في دراسة الفلسفة المحافظة التي لا تحظى بالأهمية المستحقّة ضمن الفلسفة السياسية. بل إنّه، لدى اشتغاله البحثي، يقول إنه يكاد لا يجد شيئاً مكتوباً ذا وجاهة عن الفلسفة المحافظة في اللغة العربية، معتبراً ذلك عيباً يُعيق النظرية السياسية وقدرتها على أن تفهم التحوّلات التي تعرفها الديمقراطية.

وبسبب غياب الكتابة في هذا الحقل، تكثر الأحكام المسبقة والمتحيّزة التي تفتقد الى الكثير من التروّي، كما يرى. فإذا كانت الأحزاب المحافظة قد شاركت في التداول السلمي على السلطة في ديمقراطيات راسخة، فهي ليست خطراً إذن على الديمقراطية، بمعنى أنّه يمكن أن يكون الحزبُ محافظاً وفي نفس الوقت يحافظ على العملية السياسية، وعندما يفقد الحكم لا يعارض، ولا يقاوم ولا يتشبّث إلى حدّ يُعدم فيه العملية.

منير الكشو - القسم الثقافي
منير الكشو (من الندوة)

لكن الكشو ميّز بين محافظين ومن هم على يمينهم، مثلما يجري التمييز بين ليبرالية محافظة وأخرى يسارية. ولإجلاء الصورة، تناول الفرق بين المحافظة المعتدلة التي مارست الحكم وانسجمت مع الديمقراطية، وبين اتجاهات محافظة متطرّفة يمكن أن تظهر في شكل يُطلق عليه وصف الرجعية، والتي شكّل بعضٌ منها أرضية لتطور أفكار نازية وفاشية.

وفي الجملة، أوضح المتحدّث البؤرة الجامعة للفكر المحافظ، فهو، سواء المعتدل أو المتطرّف منه، يعارض الأفكار الأساسية لفلاسفة الأنوار. فلئن قبِل المحافظون فكرة أنّ القوانين تأتي منّا نحن البشر ولا تفد علينا من الخارج، فإنّ الـ"نحن" هذه لا تتكوّن من مجموعة ذواتٍ فردية، كما يقول بذلك فلاسفة الأنوار، وإنما من العادات والتقاليد والأعراف؛ أي من الثقافة المشتركة التي دائماً لها طابع الخصوصية، كما يريد أي محافظ.


فكرة تجريبية

تتحدّث إليزابيث كساب، أستاذة الفلسفة، في "معهد الدوحة للدراسات العليا" عمّا تسمّيه "فكرة تجريبية"؛ وهي تنظر إلى الفكر السياسي العربي المعاصر ما قبل ثورات الربيع العربي وما بعده، متسائلة عن الانشغالات، هل استمرّت أم قُطع معها؟

وفي ورقتها التي تحمل عنوان "الفكر العربي السياسي المعاصر ومحاولة تحقيب جديد له"، أضاءت كساب عدّة فترات زمنية منذ عصر النهضة، لكنّها اختارت الفترة التي سبقت مباشرة ثورات الربيع، أي خلال الثلاثين عاماً السابقة لعام 2011.

ومن المحطات التي انطلقت منها العامُ 1979 وصعودُ الإسلام السياسي عقب الثورة الإيرانية، وفشل دولة ما بعد الاستقلال، وفشل التحديث السياسي، والديمقراطية، وتعثّر التنمية، ورسوخ الأنظمة السياسية الاستبدادية والحروب الأهلية، والنزاع العربي الإسرائيلي وحروب الخليج واحتلال العراق.

وبالطبع، فإنّ هذه التواريخ ليست عناوين سقطت فجأة وبشكل غير مسبوق في التاريخ العربي المعاصر، لكنها ترافقت مع بروز طروحات فكرية مكثفة حول شكل الدولة والعلمانية والمجتمع المدني وما أشبه.

إليزابيث كساب - القسم الثقافي
إليزابيث كساب (من الندوة)

أمّا ما بعد الثورات، وقد أخذ حصّةً مقدّرة من الورقة، فقد أشارت كسّاب إلى سيطرة العلوم الاجتماعية في بحث الثورات ومآلاتها، ومن ذلك ما اضطلع به "المركز العربي"، وهو من الإسهامات الأساسية في تحليل وتوثيق الثورات العربية وتعثرها وفشلها، والحروب الأهلية وتفاقم التوحّش بشكل غير مسبوق، وإعادة تمكين الاستبداد.

وفي الختام، اختارت ضمن ما تقترح بحثه عقب 2011 النسوية، من خلال استعادتها مقولة فرجينيا وولف عن أهمية أن يكون للمرأة حيّز تسيطر عليه، ولكن، وهذا هم المهم، ردّ النسوية التشيلية راكيل أوليا قبل بضعة عقود؛ إذ قالت: "إنّنا وصلنا إلى حيث لا نريد حيّزاً خاصاً، بل أن نعيد النظر بالغرفة المشتركة التي تجمعنا".

وهنا، دعت المتحدّثة النساء اللواتي اشتركن في الاحتجاجات، وهواجس الأحوال الشخصية الرهيبة التي عانين منها، أن يدفع هذا النسويّين والنسويات إلى نقاشات تعيد النظر في الجماعة والسلطة والمعرفة.


إسلام ليبرالي

جاءت الورقة الأخيرة من محمد الرحموني، أستاذ الحضارة العربية الإسلامية بـ"جامعة تونس المنار" في تونس بعنوان "أنطولوجيا الإسلام الليبرالي أو الإسلام الأخير". وانطلق الباحث، الذي قدّم ورقته عن بُعد، من مقولة الإسلام الليبرالي بعد ثورات الربيع العربي، وخصوصاً في العديد من المنجزات النظرية ومنها كتاب تشارلز كوزمان "الإسلام الليبرالي".

وإذا أشار إلى أنّ عصر النهضة العربية ليبرالي بامتياز، فقد برزت مقولتان إحداهما ترى أنّ الإسلام يمكن أن يكون ليبرالياً والثانية ترى استحالة ذلك، لأنه "دين روحانيات وتصوُّف خارج التاريخ" لا يمكن له أن يتبنّى مقولات الحداثة الليبرالية والعلمانية والديمقراطية، بحسب المفكّر الإيراني داريوش شايغان، في كتابه "ما الثورة الدينية؟" وقد سبقه في ذلك برنارد لويس وغيره.

ولفت إلى الوجه الآخر لهذه الاستحالة، وهو الرأي الذي يقول إنّ الليبرالية لا ترتقي الى المستوى الأخلاقي الذي يوفّره الإسلام، وتعيش مأزقاً أخلاقياً، ومن القائلين بهذا العقّاد ومالك بن نبي وبالخصوص أخيراً وائل حلاق.

لكن في المنطقة الوسطى بين الطرفين هناك كتاب واسع الشهرة لعلي عبد "الاسلام وأصول الحكم" الصادر عام 1925، والذي دعا فيه الناس إلى اختيار النظام السياسي الذي يريدونه، حيث لا وجود في الإسلام لنظام حكم اسمه الخلافة أو أي نظام آخر، وهذا كما قال الرحموني في حد ذاته جوهر الليبرالية.

وفي تعقيبه على إحدى المداخلات، قال إنّ هناك قبولاً للقيم الليبرالية رغم سمعتها السيئة، الناجمة عن إرث طويل يربطها بالاقتصاد الرأسمالي والغرب عموماً وهو إرث يصعب التخلص منه.

المساهمون