خالد الفَرج.. ملامح مبكّرة لمثقّف عَبْر الخليج

07 يونيو 2023
من الندوة (تصوير: "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات")
+ الخط -

أمام ملامح مُبكِّرة لصورة المثقّف الخليجي تستوقف سعد البازعي أستاذ الأدب الإنكليزي المُقارن في "جامعة الملك سعود" جملةٌ من التوجّهات الفكرية التي تعرّف المثقّف، حول العالم، وفي الوطن العربي من خارج الجزيرة العربية، ليفحص أوجه الائتلاف والاختلاف ثم الخصوصية قبل ذلك وبعده. مثاله الأوضح، والذي ربّما سيحظى بقبول واسع، هو خالد الفَرَج (الكويت 1898 - بيروت 1954). وقد حقّق في السنوات الستّ والخمسين التي عاشها، مواصفات مواطن خليجي ذي وعي مستنير وباثٍّ لهذا الوعي، وإصلاحي ومُواجِه للهيمنة الاستعمارية البريطانية.


كيانات ناشئة

جاءت نشأة الفرَج في كيانات ناشئة أصلاً، يرى البازعي أنها "لم تتبلور معالمُها بعد في معظم المستويات، قياساً إلى دول أُخرى مثل مصر والعراق". هاتان النشأتان مفتاح محاضرته التي عقدتها "وحدة دراسات الخليج والجزيرة العربية" التابعة لـ"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يوم الثلاثاء (30 أيار/ مايو الماضي)، بعنوان "خالد الفَرَج: تكوُّن المثقّف الخليجي".

سعى طيلة حياته إلى نشر التعليم الحديث ومكافحة الأمّية

فضّل البازعي في عنوانه اشتقاق "تكوّن" على "تكوين" المثقّف، رغم عدم عُمق الفارق بينهما، بيد أنّ حساسيّته اللغوية مالت إلى فعل التكوّن الذاتي، أكثر من التكوين الذي تُسهم فيه عوامل موضوعية أُخرى كالحداثة والصِّراعَين الطبقي والحزبي، وهي لم تكن تنطبق على بيئة ذات طابع قبَلي صحراوي مُحافظ تحت إدارة استعمارية وقتذاك، وتنتشر فيها الأمّية.


المباركية

نحن أمام طفل وُلد قُبيل بزوغ القرن العشرين بعامين، لعائلة ثريّة تنتمي إلى قبيلة الدواسر، ذات صلات تجارية راسخة مع مدينة بومباي (مومباي) الهندية على بحر العرب. وكان من أوائل الذين دخلوا مدرسة نظامية حديثة، وهي "مدرسة المُباركية"، والتي تأسّست في الكويت عام 1911، وأنهى في بضع سنوات تعليمه فيها، مُجتازاً صفّين في كلّ سنة، وصار مُعلّماً فيها. وقبل ذلك تعهّدت أسرتُه بتوفير مُدرّسين خصوصيّين لابنها قبل الالتحاق بمدرسة نظامية، وهذا غير ما كان سائداً في المنطقة من كتاتيب "المطوّع" و"الملّا" التي تعلّم القراءة والكتابة بطُرق بدائية.


في بومباي

توافرت له فرصة التنقّل والعيش في أرجاء الخليج برّاً، وبحراً إلى الهند التي عاش فيها سنوات، في كنف والده وقد كان غالباً تاجر لؤلؤ، منها خمس متواصلة منذ 1918. وقد أصبح في العشرين من عمره، حين أسّس مطبعة عربية رائدة في بومباي سمّاها "المطبعة العمومية"، وذلك لوعيه بأهمّية الكتاب والنشر، وطبعت كتباً عربية من بينها أول ديوان للشعر النبطي يُنشر في المنطقة.

كما انخرط في المجتمع الهندي، وأتقن اللّغتين الإنكليزية والأوردية، وهذا ما يراه البازعي انفتاحاً مبكّراً على منابع الثقافة في الهند، حيث نهل منها الفَرَج مثلما فعل عديدون غيره، ومنهم مجايلُه الشاعر والكاتب إبراهيم العريض (1908 - 2002)، الذي وُلد في بومباي.

في هذا الفضاء الجغرافي تشكّلت الملامح التي قرأها البازعي لمثقّف وشاعر، مارس التعليم والبحث والتأليف والإدارة والإعلام والسياسة، والتأريخ والنضال وسعى "من زاوية المواطن المستنير إلى إحداث تغيير". فالشخص الذي كتب دراسة "علاج الأمّية" مُدافعاً فيها عن ضرورة تبسيط الحروف العربية، وهو الذي لم يُكمل تعليمه الجامعي، كان صوتاً واضحاً في العمل على نشر التعليم الحديث ومكافحة الأمية.


ترحيل

ظلّ يرتحل بين الهند والخليج، يكتب الشعر وينشط في المنتديات الأدبية في البحرين، وينشر في صحف ومجلّات مصرية مقالاتٍ ضدَّ الاستعمار البريطاني، ومؤازراً المناضلِين ضدّ الاستعمارات الأُخرى في الوطن العربي، فتعرّض للمُلاحقة والتضييق، وصولاً إلى ترحيله من المنامة التي تبوّأ فيها مناصب رفيعة، الأمر الذي أثبتته الوثائق البريطانية، كما يؤكّد البازعي.

ساهمت مطبعته في تطوّر الصحف الأهلية شرقي الجزيرة 

تكوُّن خالد الفَرج، بما انتهى إليه البازعي، ناجمٌ عن استعداد للاضطلاع بدور المثقّف الواعي، والمشارك مباشرة في الفعل داخل كيانات محلّية جعلت منه خليجياً، بسهولة لا تتوفّر الآن. لكنّها في مطلع القرن الماضي، كانت أرجاء مفتوحة ارتحل فيها، وأقام واضطلع بمهام نوعية في الكويت والمنامة والقطيف والدمام والأحساء، وعاش آخر سنتين في دمشق قبل وفاته بقرحة في المعدة بأحد مستشفيات بيروت.

وإذا طالعنا سيرة الفَرج نراه في مهام مختلفة ونوعية كالشؤون البلدية في مدن سعودية وفي المنامة، والإشراف على تأسيس الإذاعة السعودية بتكليف من الملك عبد العزيز. بل إنّ الشاعر والناشر والمُعلّم هو بعينه من يفتتح أول شارع في مدينة القطيف التي تولّى إدارة بلديتها، كما ينقل البازعي من روايات متداولة، ويؤسّس في الدمّام مطبعة باسم مطبعة بومباي نفسه "المطبعة العمومية"، وسجّل المُحاضر أنها لعبت دوراً هاماً في تطوّر الصحف الأهلية في المنطقة الشرقية من السعودية مثل صحيفتي "القصيم" و"الظهران".

في سياق كهذا يُلاحظ البازعي أنّ الرجل لقي ترحيباً من الزعامات المحلّية، وقد دفع هذا حرص الحكومات الناشئة على توظيف من يملك القدرة في أكثر من مكان، "وهو لا يدلّ بالضرورة على تنوّع في الخبرات بل ندرة في القدرات المؤهّلة".


شاعر الخليج

الشاعر الذي لقّبه صديقه الكاتب والصحافي الفلسطيني محمد علي الطاهر (1896 - 1974)، بـ"شاعر الخليج"، هو الذي كان شعره يصدر عن ذات عربية عليها أن تقاوم المستعمِر، وفي الوقت ذاته تنقد الأوضاع المحلّية من أمّية وفساد، ويرى أيضاً أن مشروعه التغييري يمكن أن يتحقّق باقترابه من مراكز صنع القرار، كما لاحظ البازعي. 
وفي شعر خالد الفَرج التزام بالخطاب السياسي، وبعضُه في نظر البازعي "أضعفت المباشرة فنّيته"، إذ كان يستثمر اللغة الشعرية المقفّاة، وسهلة الحفظ، في مواجهة الأجنبي: "وإلقاء جزء كبير من اللائمة على الحكّام. اللغة في وجه المحتلّ كانت واضحة، والمحلّية تراوحت بين التصريح والتضمين".

ومن ذلك:

"يا قوم إنْ مرضت بكم أَوطانكم 
كونوا من الآسين لا العوّاد
ومتى أتت فُرص القيام فشمّروا
عن ساعد الإقدام باستعداد".

افتتح أول شارع في مدينة القطيف التي تولّى إدارة بلديتها

ولعلّ وصف الشاعر محمود درويش لهذا النوع من الشعر بأنه "شعر ضروري" لا يحمل حُكم قيمة، بقدر ما يصف مجالاً من التعبير ذا أطياف عديدة، ومنها طيف التاريخ الذي وصفه البازعي بأنه ناشئ ومعه مثقّفون ناشئون، يرون بلاداً تولد في الوطن العربي ولادات غير طبيعية.


وعي شقي

ولهذا يوصلنا البازعي إلى قصائد أُخرى معبّرة عن "وعي شقي" وقد لاحظ في شخصية الفَرج سعياً دؤوباً للفعل البنّاء على الأرض بينما كانت تتنازعه مشاعر القلق من تهميش المثقّفين والمتعلّمين:

"وأوَّل قيْدٍ طوَّقوني بغلِّه 
ثيابٌ وأقماطٌ على الجسم تلتفّ
فما اخترتُ ميلادي وما اخترتُ نزعتي
وما ليَ في التاريخ من سيرتي حَرفُ
أعيشُ كما شاؤوا وشاء اجتماعهم 
تُكَيِّفني (أو تكتفني) عاداتُ قومي والعُرفُ".

هذا هو وعي المثقّف في تلك المرحلة المبكّرة. ولكنْ عند البازعي هناك ما يُشير إلى أنه كان وعياً مركّباً يصدر عن معرفة بالأوضاع وتقدير لطبيعتها، وأهمية المشاركة في الحراك لتنمية المنطقة. إذ كان بإمكان الفَرج أن ينعزل ويقول يئست، لكنه لم يفعل. كان مأزوماً، كما يصف، بذلك الوعي الذي لطالما عبّر عنه الكتّاب والمثقّفون. فبعض ذلك التعبير كان فلسفياً أيديولوجياً وبعضه كان ثورياً.


أي نوع من المثقّفين؟

تكوين المثقف يستلزم طرح السؤال عن خالد الفَرج من تلك الزاوية. والسؤال بلسان البازعي "أي نوع من المثقّفين كان؟ كيف رأى الفرَج وظيفته بوصفه مثقّفاً؟ إذا كان أنموذجاً للمثقّف الخليجي في تلك الفترة المبكّرة، فكيف أسهمت الثقافة والمجتمع بما يشتمل عليه من أنظمة سياسية في تكوينه؟".

تلقائياً، يضعنا البازعي أمام غرامشي صاحب أشهر تعريفات المثقّف والأكثر تداولاً، وهو "المثقّف العضوي". أما وإنه تعريف مستمدّ من الصراع الطبقي والحزبي الذي عرفته إيطاليا بين الحربين "فإن المثقّف ينتمي إلى نخبة تعبّر عن طموحات الطبقة التي ينتمي إليها، وهي طموحات اقتصادية وسياسية وحزبية منظورٌ إليها من زاوية أيديولوجية ماركسية".

خارج سياق ذلك التعريف الذي تصوّره غرامشي فقد "اعتوره الكثير من الابتسار وسوء القراءة، لا سيما في الفكر العربي المعاصر، فما إن يُذكر مثقّف حتى يفزع المحلّلون إلى غرامشي ومعه المثقّف العضوي". يقترح البازعي هنا أن نستقرئ تعريفات أُخرى قد لا تكون بالأهمية والتأثير نفسيهما لكنها جديرة بأن تختبر أو تؤخذ في الاعتبار، لا سيما أنها في نظره أقرب إلى الواقع العربي، وطبيعة المثقّف في المجتمعات العربية.

يُشير هنا إلى التصنيف الذي وضعه المفكّر المغربي عبد الله العروي، في كتابه "الأيديولوجيا العربية المعاصرة"، وقد استلّه من وَضْع الثقافة في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، أي الفترة نفسها التي عاش فيها خالد الفَرج.

هذه ثلاثة أصناف طرحها العروي: الشيخ، ورجل السياسة، وداعية التقنية. ويمثل لبعضهم بشخصيات تاريخية أو بتصوّرات بثّها مثقّفون في عصرهم، فمن الشيخ محمد عبده، بوصفه الشيخ المؤمن بتفوّق الإسلام على الغرب، إلى دعاة الديمقراطية السياسية وترك الاستبداد من أمثال: خالد محمد خالد، ومحمد حسين هيكل، والقائلين إنّ التقنية والصناعة هي ما نحتاجه للنهوض ومثالهم: سلامة موسى.

في معاينته لهذه النماذج الثلاثة يرى أنه يصدق بعض سماتها على المثقّف الخليجي، لكن لا ينطبق أيّ منها تماماً عليه، قائلاً: "لربما كان الأقرب إلى شخصيته الجانب السياسي المتمثّل في نضاله ضدّ الأجنبي، لكنّه بالتأكيد ليس داعية ديمقراطية بالمفهوم الغربي، مثلما أنه لم يكن شيخاً يدعو لاستعادة مجد الإسلام".

ما يُشبه المطابقة في نضال الفَرج ضدّ المستعمر، هي في نتاج البازعي أقرب إلى ما طرحه في ستينيات القرن الماضي المثقّف والمناضل المارتينيكي فرانز فانون في كتابه "المعذبون في الأرض"، حين تحدّث عن دور المثقّف المقاوم للاستعمار. 

ينقل عن فانون القول إنّ مثقّفي العالَم الثالث ينشغلون في البداية في محاكاة الغرب، لكنهم ينبغي أن يخلصوا إلى دورهم الحقيقي والمطلوب، وهو التوعية أو نشر الوعي. وهو ما يسمّيه، أي فانون، الوجه الثالث لنشاط المثقّف المحلّي بعد أن يكون المثقّف قد جرب إدماج نفسه في الشعب ومع الشعب، سيقوم على النقيض من ذلك بهزّ الشعب، فبدل أن يُبدي إعجابه بحالة السُبات التي يعيشها الشعب، يحول نفسه إلى موقظ للشعب.


شخصية متعدّدة

في تقديره إنّ هذا التصوّر قريب مما كان عليه الفَرج، مثقّفاً عربياً خليجياً مع أنه صاحب تصوّر "مبسّط وخالٍ من التركيب أو العمق الذي نجده لدى غرامشي أو العروي. إنه قريب من المهمّة التي حدّدها لنفسه، واضطلع بتنفيذها كما يتضح من كتاباته والأعمال التي قام بها".

يصفه البازعي بأنه شخصية تشكّلت بتشكُّل الكيانات التي انتمى إليها، والتي أحاطت به وشارك في بنائها، وهو شخصية متعدّدة الوجوه وعميقة التجذّر في التكوين الثقافي في المنطقة.

إنّ الجذور التي استشعرها البازعي لدى استرجاع صورة خالد الفرج هي الجذور السهلة والعميقة في آن، وتُحيل إلى هُوية منطقة ما قبل ترسيم حدود الكيانات السياسية التي نشأت في ظلّ هيمنة الاستعمار، مثلما تشكّلت باقي الكيانات العربية. هي المنطقة التي أصبح اسمها "الخليج"، في ما يعرف من مجاز "دلالة الجزء على الكلّ"، والكلّ هنا هو الجزيرة أو شبه الجزيرة العربية التي قال فيها شعراً:

"هل في الجزيرة غيرُ شعب واحد
 قد مُزقت بيد العدى وحداتُه".

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون