خالد الجادر في مئويّته: اللوحة كمرآةٍ للعراق وأهله

20 فبراير 2022
خالد الجادر
+ الخط -

لعبت مرجعيّتان أساسيّتان في تكوين تجربة خالد الجادر، الذي يصادف هذا العام ذكرى مرور قرنٍ على مولده؛ الأولى تعود إلى تأثّره بأستاذه فائق حسن ورؤيته في تأصيل الحداثة الفنية لاستيعاب مفردات الحياة اليومية والثقافة العراقية، والثانية دراساته للفنّ الإسلامي متخصّصاً في منمنمات القرن الثالث عشر.

في باريس، وضع الفنان التشكيلي العراقي (1922 – 1988) أطروحة دكتوراه بعنوان "المخطوطات العراقية المصورّة من فترة القرون الوسطى"، والتي نالها من "جامعة السوربون" سنة 1954، مُضيئاً الازدهار الاقتصادي الذي مثّل أهمّ عاملٍ في تطوير الخطّ العربي والفنون والعمارة في تلك الحقبة، وكذلك مسألة التحريم في سياقاتها الاجتماعية التي قادت بعد فترة طويلة إلى تشريعات تحظر التجسيد.

بحثٌ نظريّ اتّكَأ على اكتشاف محراب في بغداد من العصر العباسي، مشغولٍ من الحجر وعلى جوانبه منحوتات بارزة تحمل كلّ منها سيفاً، حيث خلص الجادر إلى أن فن رسم الأشخاص اختفى تدريجياً، وصولاً إلى ظهور زخرفة تجريدية بسبب الحرَج الاجتماعي من التشخيص قبل ظهور فتاوى التحريم لاحقاً، ومقابل ذلك كانت الممارسة العملية له مساحة مضادّة، أو مغايرة إلى حدٍّ بعيد، حيث انخرط في "صالون باريس" ضمن تيّار الانطباعية الجديدة الذي كان سائداً في منتصف الخمسينيات.

ساهم في إيجاد عدد من أُولى المؤسّسات الفنية في العراق

تناول في رسوماته الأولى موضوعات الطبيعة في الريف الفرنسي والقِلاع والمباني التاريخية والبحر، وهي موضوعات شغلت الانطباعيين، حيث نفّذ مئة وستّة وعشرين عملاً تنوّعت بين التخطيطات واللوحات الزيتية، قدّمها في معرضه الأول الذي أقامه في بغداد سنة 1955، بعد عودته من فرنسا والتحاقه بـ"جامعة بغداد" مدرّساً للرسم وتاريخ الفن.

مثل بقية أبناء جيله، ساهم الجادر في تأسيس الأطر والمؤسّسات الفنّية الأولى في بلده، وفي مقدّمتها "جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين" مطلع عام 1956، مع عدد من الفنانين ومنهم نزيهة سليم وعالية القرغولي ومحمد مكيّة وزيد صالح ورفعت الجادرجي وفرج عبو وآخرون، وقد آمنوا جميعاً بتجاور الرسم والعمارة والفنون البصرية، وسَعوا في الوقت نفسه عبر جماعاتهم وتيّاراتهم إلى استعادة الموروث الرافديني، والحضارة العربية الإسلامية بمدارسها الزخرفية والحروفية المتعدّدة، ضمن رؤية حداثوية.

خالد الجادر

طبَع مقولات التأسيس بعدٌ رسالي وأخلاقي انحاز إلى الجمهور باعتباره جزءاً لا يتجزّأ من العملية الإبداعية، ما يعني أن يكون الفن موّجهاً لجميع مكوّنات المجتمع وطبقاته، فاهتمّ الجادر بالتراث وطُرُز العمارة في العراق ضمن تشابكها مع الطبيعة والمشاهد المستمدّة من حياة الناس وسلوكهم في البيوت والأسواق والأحياء الشعبية، مشيراً في مقالاته التي كتبها في السيتينيات، إلى أن الأسلوب الخاص للفنّان يتولّد من قدرته على محاكاة مناخات واقعه ودلالاته الروحية، حيث لا يمكن فهم هذه الدلالات إلّا داخل اللوحة.

روحيّة الفن لدى الجادر تعود جذورها إلى مرحلة مبكّرة، حين تعلّم الرسم لأربع سنوات دون أن تعرف بذلك والدته التي أرادت أن يصبح ابنها محامياً، فنال شهادة في الحقوق إرضاءً لها، لكنه درس في "معهد الفنون الجميلة" أيضاً إخلاصاً لمشروعه الشخصي الذي جمَع بين التدريس والبحث والممارسة ضمن تجريب دائم قام على أسس واضحة ميّزت تجربته منذ بداياتها، كما يشير شاكر حسن آل سعيد إلى تعامُله مع اللون وانحيازه إلى الواقعية التعبيرية خلافاً لمعاصريه الذين وجدوا غايتهم في التجريد.

كان التجريب الدائم سمته في الفن والتدريس والبحث

شكّل الواقع أساس لوحته الذي لم يحد عنه، إذ اتّخذ تجريبُه مساراً جمالياً خاصّاً في تكويناته اللونية والخطّية كما تُبرزه بشكل أدقّ مئات التخطيطات التي استخدم فيها الحبر الصيني والرصاص لرسم بورتريهات لأشخاص تنزع نحو التبسيط والإيجاز لكنها تحتفظ بأدقّ ملامحهم وأصغر تفاصيلهم، وتُبرز حساسيته العالية في توزيع الظلّ والنور، وبراعته في توظيف الأبعاد الفراغية في تكوين الأشكال داخل فضاء اللوحة.

يصف الجادر منظوره للفن بقوله: "أنا أرسم ما أحسّ به. وأنا أرسم بإحساس كونيَ إنساناً له معاناته الاجتماعية المعينة، وأريد أن أعبّر عنها. ولكلّ هذه الأسباب أرسم بكثير من الوضوح وكثير من الغموض أيضاً؛ الغموص المتغلغل في جزئيات العمل". ووفق هذا الإحساس، يحضر البُعد التوثيقي في أعماله التي يمكن قراءتها كمدوّنة بصريّة للعادات والتقاليد، وأنماط البناء والإنتاج، والأزياء والحياة الاجتماعية في العراق دون أن تقلّل تلك المحاكاة من قيمتها الفنية.

بعد تدريسه لسنوات عدّة في "معهد الفنون"، عُهد إليه بتأسيس "أكاديمية الفنون الجميلة" عام 1962، حيث عيّن أوّل رئيس لها، وعُرف عنه انضباطه الإداري، وسعيه الدؤوب إلى تطوير مستوى طلبة الفنون وعدم اكتفائهم بشهادة جامعية تؤّمن لهم وظيفةً في التعليم، من خلال إشراكهم في الحراك الثقافي وفعالياته التي شهدت ازدهاراً كبيراً آنذاك، ولا يزال يُنظَر بعين التقدير إلى حضوره كمدرّس بالقدر الذي يحظى فيه بتقدير ريادته في المشهد التشكيلي ببلاده.

خالد الجادر

انتقل بعد ذلك للعمل مدرّساً في جامعات ببرلين والرياض والرباط، بموازاة إقامة معارضه الشخصية التي ضمّت أبرز لوحاته التي تحتفظ بها متاحف عربية وعالمية إلى اليوم، وترتبط معظمها بأمكنة أقام فيها أو بأحداث سياسية عايشها، مثل "الفلّاح العراقي وثورة تمّوز" (1958) التي تصوّر فلّاحين عراقيّين بين سنابل القمح في مشهد يوحي بالحركة من خلال استخدامهم للأداوات الزراعية، و"شارع الجمهورية" (1960)، وفيها تظهر سلسلة من البيوت القديمة بشناشيلها (مشربيّاتها) في الشارع البغدادي، وأمامها حشود الباعة والمارّة إلى جوار الجامع.

انشغالات الجادر في العمل الإداري تجاوزت حدودها المحلّية، حيث بذل جهوداً كبيرة لعقد "المعرض العربي الأوّل للفنون التشكيلية" بموازاة مؤتمر عربي متخصّص في التشكيل عام 1973 في العاصمة العراقية، وكان من ضمن فعالياته تنظيم أول بينالي عربي لم يُكتب له الاستمرار.

ترَك الفنان الراحل العديد من الدراسات منها "الواسطي والخصائص الفنّية للمدرسة العراقية في العصور الوسطى الإسلامية"، و"المعاصرة والتراث"، و"حركة التوسّع الإسلامي وأثرها"، و"سامراء وأثر العلماء الألمان فيها"، و"بحوث عن تاريخ الإمبراطورية البيزنطية"، و"بحوث عن الحضارة العباسية"، و"مكانة العصور الوسطى ونهايتها: المجتمع الإقطاعي ونشوء المدن والتجارة والحركة الفكرية ونشأة الجامعات".

المساهمون