- نشأت علاقة ودية بين الكاتب وبائع سمك في السوق رغم حاجز اللغة، مما جعله يشعر بأن المدينة ترحب بالغرباء، خاصة بعد تفاعله مع عامل الكراج.
- شعر الكاتب بخيبة أمل عندما تجاهله البائع في زيارته التالية، مما جعله يعيد التفكير في قراره بترك منزله القديم.
وصلت هذه المدينة قبل أيام، جُلتُ كثيراً في الأحياء، حتى اخترت لنفسي هذه الشقّة التي تُطلّ على الأفق، فيمكنني أن أتوقّف عن التلصّص على الجيران، ويترك لي الأفق المفتوح أن أفكر في أبديّتي. يقترب مكان سكناي من المدينة القديمة والسوق الشعبي، أسماك محنّطة على الثلج، ورائحة بهارات تختلط مع الهواء، وحينما كنت أسير، وتلفحني موجة باردة من الهواء أتذكّر وحدتي، وبُعدي عن أهلي، وانكساري المخبوء تحت طيّات معطفي.
مررتُ بالسوق في يومي الأوّل، أفتّش في الوجوه لا في أشكال السمك، أبحث عن بائع بعينه، ولا أبحث عن أكلة سمك، وحين تلاقت نظراتنا، ولأنّه كان سريع البديهة، عرف أنّني غريب، وأن لا لغة بيننا غير الإشارة، سارع إلى تحيّتي بانحناءة بسيطة وميلان الرقبة قليلاً إلى اليمين. ومع تلك الابتسامة الرفيعة، توقّفت، قلت إذن هو صديقي الجديد، وأشرت إليه من شرودي، وأنا أتطلّع بسرعة على متحف السمك الذي يمتدّ أمامه، وعرف أنّني لا أفقه بالسمك شيئاً، لذا تبرّع هو بحسم القرار، وأشار إلى سمكة بعينها، ستكون في ما بعد عربون صداقتنا، مددت يدي ببعض البقشيش وبصورة سينمائية، وأنا أعتصر ورقة العشر دولارات، وأخفيها بين إصبعي الكبير وحرارة يدي، وقد دسستها في قميصه، وردّ لي ذلك بابتسامة لطيفة.
عدت في اليوم التالي، وكنت ألعب مع ذاتي لعبة، أتراهن معها على أنّ صاحب السمك سيتذكّرني، بينما تقول هي إنّه نعم سيتذكّر بقشيشك. تذكّرني فعلاً أو تذكّر بقشيشي، لا يمكنني صراحة أن أجزم بذلك، لكنّي صرت أمضي في الشوارع مدّعياً أنّها مدينة تحب الغرباء، حتى إنّ الرجل الذي يعمل في الكراج، تودّد لي أكثر من مرّة، وأنّه في مرّته الأخيرة، مازحني قائلاً ـ وبمعجم لغته التي لم أتعوّد عليها بعد ـ بحقّ ضميرك يا رجل هل تعتقد أنّك قد صففت سيارتك جيّداً، ولأني أتلعثم بلغتهم الجديدة عليّ، صرت أُردّد كلمة ضميري، لأكسب الوقت في محاولة تذكّر معناها، بينما انفجر هو ضاحكاً: هل إنّني لا سمح الله ذكّرتك بضميرك الذي كنت قد نسيته؟
تذكّرني فعلاً أو تذكّر بقشيشي، لا يمكنني صراحة أن أجزم بذلك
وهنا تشاركنا القهقهة، ونزلت أمشي سعيداً، وأؤكّد لذاتي أنّ المدينة ترحّب فعلاً بالغرباء، وأنّني للتو حقّقت مكاسب عديدة، أملك صديقين اثنين، ولنقل معارف، ولديّ لغة تكفيني لأقهقه مع الناس، وأنّ الهواء الذي يلفحني لم يعد يذكّرني بوحدتي، بل يشعرني بحلاوة الدنيا. لذا مضيت إلى صديقي الأوّل، صاحب السمك والابتسامة الرفيعة، غير أنّه لم يأبه لوجودي، ولا حتى طمع ببقشيشي الذي أُضاعفه كثيراً بعد آخر مرّة، حيث إنّه انسحب من مواجهتي، وكأنّه كان مشغولاً بشيء آخر، ودفع زميله إلى خدمتي. وقفتُ مذهولاً، وأنا أخسر أكبر رهانات الحياة، أنا وذاتي خسرنا أن نفهم ما كان عليه ذلك الصديق، فلم يهمّه وجهي، ولا بقشيشي، وأنّ ما أعرفه في الحياة، يمكن أن ألخّصه باحتمالين، إمّا أن يتفاعل المرء مع ما تمنحه وإما مع ما تخفيه.
ولأوّل مرّة أصادف من لا يغريه مالي وغموضي، عدت إلى شقّتي أشعر باختلاط الحزن والذهول، وصرت أنظر من نافذتي عبر الأفق، فوجدت أنّ الأفق محدود ومملّ، ولو أنّني استبدلت هذا الأفق بمراقبة الناس لكان أفضل لي ولوقتي.
لم أكن قادراً على النوم، حتى تلقّفت صباح اليوم الآتي، أفكّر في صديقي الآخر، وأضع كلّ رهاناتي عليه، ذهبت إلى الكراج، وصرت أتباطأ قرب سيارتي، أدّعي أنّني أفحص شيئاً فيها، حتى لمحته قادماً نحوي، وصرت أقول مع نفسي، سيذكّرني بنكتته الأثيرة، لكنّه لم يلحظ وجودي، ومرّ من أمامي متّجهاً نحو البوّابة، حينها عرفت أنّني قد اقترفتُ أسوأ الشرور كلّها حينما بعت بيتي الذي وُلدت فيه، واستبدلته بالأفق المملّ.
* كاتب من العراق