حين يدقّون جدران الخزّان

17 نوفمبر 2023
غسان كنفاني (1936 - 1972)
+ الخط -

في رواية غسان كنفاني، "رجال في الشمس"، يتساءل أبو الخيزران، سائق الصهريج، الذي كان يهرّبُ ثلاثةً من الفلسطينيّين إلى الكويت، عبر الأراضي العراقية، بعد أن ماتوا اختناقاً في خزّان الصهريج، بينما كان هو يتلهّى بالحديث الفارغ مع شرطة الحدود: "لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟".

وعلى الرغم من مرور كثير من السنوات على صدور هذه الرواية، التي يجزم كلُّ من قرأها تقريباً أنَّ الفلسطينيّين الثلاثة لم يدقّوا على الجدران، ولهذا كان مصيرهم الموت بداخله اختناقاً، فهناك احتمال ما أفكّر به اليوم، وهو أنهّم قد دقّوا بالفعل على تلك الجدران، وأنّ وجود ذلك القائد العاجز اللامبالي في المخفر، جعل السائق لا يسمع تلك الدقّات، ويتركهم كي يموتوا.

ولعلَ بناء "رجال في الشمس" الرمزي، على ما قدّم له الدكتور إحسان عباس في الأعمال الكاملة، يسمح لنا بهذا الاستنتاج المعقول الذي تدعمه جميع الوقائع التالية التي أعقبت حادثة الموت المجّاني الغريب. وحتّى لو قبلنا باستنتاج كنفاني، والمرجع هو إحسان عباس أيضاً، بأنّ الموت يلحق بالفلسطيني الذي يحاول الهرب أو التخلّي عن قضيته، فإنّنا سوف نصل إلى اللحظة التي تواجهنا اليوم، وقد واجهتنا من قبل، وسوف تظلّ تواجهنا إلى زمن لا نهاية له إلّا بنهاية مشروع الدولة الصهيونية، أو نهايتنا جميعاً. تقول هذه اللحظة إنّ الفلسطيني، منذ زمن ذلك الخزّان القاتل، وقبل ذلك الزمن، لا يدقّ على جدرانه وحسب، بل يخرق القاعدة الحديدية كلّها، مندفعاً لصناعة تاريخه.

لا يدقّ الفلسطيني على الجدران وحسب، بل يخرق القاعدة الحديدية كلّها

وفي كلّ الأحوال فإننا هنا، وفي كلّ الأوقات، أمام السؤال الذي واجه الفلسطينيّين طوال السنوات التي مضت، منذ أن بدأ إعداد المشروع الصهيوني حتّى اليوم: ما العمل؟ وقد جرّبوا كلّ عمل تقريباً، من النضال السلمي في زمن الاستعمار البريطاني لفلسطين إلى النضال المسلَّح. ولم تفشل كلّ تلك المحاولات بسبب الصمت الفلسطيني، بل بسبب القوّة البريطانية الصهيونية آنذاك، والتواطؤ العربي، وفي معظم المرّات كان اللّوم من نصيبهم.

ومنذ أن بدأ الدقّ على الجدران وضع العالَم الفلسطينيّين تحت المراقبة غير العادلة وغير الأخلاقية، وقد بدا كأنّ هناك ما يشبه الإجماع على ضرورة أن يبقوا صامتين وعاجزين، داخل صهريج الوقت الحديدي الصدئ، دون أن يعلم أحدٌ ماذا سيفعل هذا العالَم بهم، باستثناء الصهاينة الذين يحلمون بإبادتهم.

وبينما كانت "إسرائيل" تطفح بالأسلحة والذخائر والمساعدات العسكرية، وغير العسكرية، ولا تزال حتّى اليوم، بما في ذلك الأسلحة النووية، أُدين الكفاح المسلح الفلسطيني، وأُدين العمل الفدائي، وأُدين مركز الأبحاث الفلسطيني، والمجلّة والجريدة الفلسطينيتان، واعتُبرت الكوفيّة الفلسطينية ذاتها عداءً للسامية، وربّما كانت الكوفية بالذات هي الرمز الوحيد الذي لم يستطع الإسرائيليون سرقته، ونسبته إلى أنفسهم.

والسؤال هو: ما الذي يريده العالَم الغربي والصهاينة من الفلسطيني؟ الاستسلام والخروج من الخزّان والامتناع عن إصدار أي صوت. وما الذي يريده الحاكمُ العربي والمطبّع العربي والمستسلم العربي من الفلسطيني؟ العودة إلى الخزّان فقط، وعدم الدقّ على جدرانه أبداً.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون