قد لا يكون من المبالغ فيه اعتبار السيرة الذاتية للشاعر الإريتري - الإيطالي حميد بارولي عبدو (1953)، الصادرة مؤخراً في إيطاليا (منشورات دي كومبوري، 2023)، أحد أهمّ الكتب التي وضعها أدباء الهجرة في إيطاليا منذ سنوات، وذلك لما يكتنف العمل من صراحة قلّ نظيرها.
تُعلن "سيرة العرفان"، من عتبتها الأولى، عن سباحة الشاعر الأفريقي الذي أمضي خمسين عاماً من حياته في إيطاليا ضدّ التيار. فبعيداً عن الأغلفة الدارجة لكُتّاب الأقليّات، بقبضات اليد المضمومة، ونساء بشعر أزرق يصرخن في مكبّرات الصوت، ومُظاهرات قد يتخللها أناس برأسين وجلد أخضر وقرون، يَظهر حميد على غلاف كتابه الأخير في صورة ثورية. مِهَنيّ بوجه حليق، وقميص مكويّ بعناية مع ربطة عنق أنيقة، بينما اختار للغلاف الخلفي صورة من شبابه في يوم مشرق في بحيرة كومو الجميلة، ليقف بذلك على النقيض تماماً من الصورة الذهنية التي يُراد تكريسها في إيطاليا عن المهاجرين السود، من خلال الزج بهم في منظومة العصيان لقيم الاستطيقا والتذوق الهنيء للحياة الذي تتشاركه كل الثقافات. وحيث إن الرغبة الملحّة للخروج عن المألوف لدى تقدميّي الربع الساعة الأخير في إيطاليا بدأ يأخذ أشكالاً متطرّفة من التلذذ بالقبح والسعي للترويج له وبثه بين الفئات الهشة لا سيما المهاجرة، في تجسيد لحالة من الهوس المرضي بفكرة الجحود والتمرد، حتى وإن كان ذلك على سُلطة الجمال الطبيعي للكون.
الامتنان الذي يُظهره حميد بارولي عبدو للحياة، في المقابل، لا يتوقف عند العنونة وسيميائية الصورة، بل على مدى ما يقارب 400 صفحة كاملة من كتابٍ لا نلمس فيه أي سخط أو نقمة على العالم، على الرغم من الحياة غير اليسيرة التي عاشها الكاتب بعيداً عن مسقط رأسه بأسمرا، وكل ما اكتنف ذلك من مصاعب وتحديات.
يقف على نقيض الصورة المكرّسة عن المهاجرين في إيطاليا
"في سن السبعين شعرت أن الوقت قد حان لكتابة هذه المذكرات"، هكذا يبدأ الشاعر كلامه في التقديم الأوّل لكتابه بتورينو في الخامس والعشرين من حزيران/ يونيو الماضي: "أشعر بالامتنان العميق للثقافة التي أتيت منها والقيم المتجذرة في داخلي التي أمدتني بأرضية صلبة ما زلت أقف عليها من أجل التعرف على ثقافات أُخرى وعدم الخوف من استكشاف الآخر". ليواصل الكاتب بأسلوب فكاهي يميزه ويطبع كتابه الأخير، مؤكداً أن صديقته الأعز في إيطاليا هي سيدة من نابولي لا تخلو أي زاوية من بيتها من صليب أو أيقونة كاثوليكية، بينما هو رجل آخِر أمنياته في هذه الحياة أن يُدفن في مقبرة إسلامية. وهنا يتوقف الشاعر عند أثر الثقافة الصوفية عليه واعتقاده الراسخ أن البحث عن الحق هو أمتنُ ما يمكن أن يوحّد البشر أياً كانت منطلقاتهم الثقافية.
وبالحديث عن الحق والحقيقة، افتتح بارولي عبدو سيرته بتوطئةٍ نشر من خلالها رسالة مؤثرة لأبنائه الأربعة، الذين أنجبهم من سيدتَين إيطاليتين، وردت فيها عبارة يمكن أن تصبح مفتاح قراءة للعمل بأكمله: "... لقد دخلتُ مرحلة عمرية من حياتي بدأت أشعر فيها بالشيخوخة. تلك المرحلة من الوجود التي تسقط فيها الأقنعة والمظاهر، ونتخلّى فيها عن دفاعاتنا، ونبدأ فيها بقول الحقيقة...".
والحقيقة أن كم المكاشفات الذي حَوته دفّتا "سيرة العرفان" من شأنه هدم أنساق ثقافية واجتماعية كثيرة رسّختها في السنوات الأخيرة بروباغندا الهجرة، وإسقاط مؤسسات بأكملها تعمل في هذا القطاع، وهو ما لم يغب عن فرانكو بوسانتي عند كتابة مقدمة الكتاب، إذ لم يتردد في وضع الأحزاب اليمينية والمنظمات اليسارية (الراعية للمهاجرين) في نفس السلة، بل ذهب بوسانتي لوصف هذه المنظمات بأنها جهات منافقة تدّعي الطيبة، ولم يغفل عن وضع كلمة "إنسانية" في وصف نشاطاتها بين ظفرين، مؤكداً أن شرَهَ هذه الجمعيات للمال وسعيها للتكسّب بأي شكل، صنع إطاراً مخيفاً من الاستغلال لظاهرة الهجرة المؤلمة.
وفي هذا السياق وصف الشاعر الإريتري، في الفصل الخامس من سيرته، النظام بأنه يرعى صراحة عبودية جديدة في القرن الواحد والعشرين، إذ لا فرق بين الزنوج ممن كان يعملون في حقول القطن بأميركا والسود الذين تستجلبهم باخرات المنظمات غير الحكومية إلى إيطاليا لينتهوا في العمل بجمع الطماطم تحت الشمس الحارقة مقابل يورو واحد لليوم.
وكان صاحب "ادفنوا جلدي في أفريقيا" قد أوفى بوعده للقارئ في قول الحقيقة دون مراوغات منذ الفصول الأولى للعمل، حيث تطرق في الفصل الثاني من سيرته بعد فصلٍ أول مثير تناول قصة خروجه للتقاعد من عمله كمستشار للأمراض النفسية، إلى شخصية جوديث - اسم مستعار على الأرجح – لامرأة تعرّف عليها خلال تقديمه لأحد كتبه، وهي مديرة جمعية تهتم بالنساء المهاجرات. "نسوية كارهة للرجال تعتقد أنها وُلدت لأمّ فقط ولا أب لها"، هكذا وصف الكاتب ساخرا "السيدة الخيّرة التي تمتلك حِسّاً عالياً للأعمال والتجارة"، والتي استغلت ظاهرة الهجرة مع انطلاق موجاتها الكبرى بداية التسعينيات، وأسست جمعية تتربّح بها حالياً ما قيمته ألفَي يورو على "رأس" كلّ امرأة تستضيفها. ليفصّل الكاتب بعدها في أساليب استجلاب التمويل للجمعية، وكيف أن كل شيء ينتهي عملياً في جيب جوديث التي تكنّ عداءً مرضياً للرجال، وحيث إنها من خلال جمعيتها تحرّض النساء المهاجرات على تطليق أزواجهن من أجل الحصول على سكن مستقل ومساعدات مالية، حتى إن وصل الأمر إلى تلفيق تهم جنائية أو حتى تهم إرهاب لأزواجهن.
كتابٌ لا نلمس فيه أيّ سخط أو نقمة على العالم
وهنا تحدّث الكاتب، بتفصيل شديد، عن قضية معروفة لسيدة عربية قامت قبل سنوات باتهام زوجها بالإرهاب، وكانت جوديث، بحسب الكاتب ومَن يعرفها، من فبرك القضية، بل وساعدت الزوجة لزرع القرائن في منزل الرجل الذي اختفى وراء الشمس ولم يعد يعرف أحدٌ عن مصيره شيئاً. أما زوجته فقد حصلت بعد الانفصال على مسكن مجّاني من الدولة، كما وعدتها بذلك جوديث، وحيث فتحت البلدية ببساطة ملفّاً جديداً لعائلة معوزة: "مجرد حالة جديدة سيتم الاعتناء بها تتخرّج في مصنع العوز الذي ينتج باستمرار مواطنين جدداً ينبغي إعانتهم. فما الأجمل من أن يكون هناك كائنات في الدرك الأسفل من السُلّم الاجتماعي يشعر من خلالهم الأطهار أنهم مفيدون في هذا العالم؟". هكذا ختم الكاتب قصّة جوديث بسخرية ومرارة.
واللافت أنّ الكاتب تعرض خلال 43 فصلاً من كتابه لقصص تفصيلية عن شخصيات عرفها بشكل معمق وأخرى عابرة، وغيرها سمع عن حكاياتها في وسائل الإعلام، لكنه أدرجها في عمله مُصيّرا إياها جزءاً من سيرته الخاصة، وكأنه يقول للقارئ إنّ كلّ شخص عرفه من قريب أو من بعيد، وأي قصة سمع عنها تركت أثرت في نفسه هي ما صنع حميد بارولي عبدو الآن. ويبقى الخيط الرابط بين كل تلك القصص، احتواؤها على أليغوريا السكن، حيث يكون البيت منطلقاً أو منتهى أو عقدة تنبني عليها حبكة كل حكاية وحلُّها.
اللافت أيضاً في مذكرات الشاعر، الذي صدر له في إيطاليا عشرون كتاباً تنوعت بين الدراسات الاجتماعية والتاريخية والمسرح والشعر، هو أنها الأُولى من نوعها التي تتناول طابوهات حقيقية لا يجرأ عادة المثقفون المهاجرون أو اللاجئون على الاقتراب منها أو حتى التلميح لوجود خطب ما فيها، على غرار دور الأيدولوجيا النسوية في تخريب نواة العائلات المهاجرة في أوروبا وتفكيكها، وعمل المنظمات غير الحكومية في تغذية سوق العبيد الجدد في أوروبا، ليس من الناحية اللوجستية فحسب، بل من خلال تكريس صور ثقافية خارج الحدود لا تعكس الوضع الحقيقي لأوروبا.
والواقع أن الصحافية الإيطالية فرانتشيسكا توتولو كشفت في كتابها الأخير "جحيم الهجرة" (منشورات ألتافورتي، 2019)، من خلال وثائق وأدلة لا تقبل الدحض، علاقة منظمات غير حكومية كبرى داعمة للهجرة بشركات مرتزقة تغذّي الحروب في "الشرق الأوسط" وبارونات التجارة بالأسلحة في بؤر الصراع في أفريقيا والمنطقة العربية. وعلى الرغم من الجدل الواسع الذي أثاره الكتاب حينها، إلا أن الانتقادات التي طاولته أتت كلها من موقع أن دار النشر مقرَّبة من "حزب كازاباوند" اليميني المتطرف، ليجري تصنيف الكتاب بأنه فاشي عنصري، بغضّ النظر عن الحقائق التي أوردتها الصحافية ولم يتمكن أحد من تفنيدها.
البحث عن الحق هو أمتنُ ما يمكن أن يوحّد البشر
من هنا تأتي أهمية كتاب الشاعر الأفريقي في الإضاءة على الحقيقة، من حيث إنها قيمة مطلقة لا تقبل المساومة، طارحاً سؤالاً ملحّاً عن واجب الأدباء إزاء الحقيقة، بغضّ النظر عن الاصطفافات السياسية الضيقة وما يرتبط بها من مصالح لحظوية: فهل تتعارض الكتابة من موقع اللجوء والهجرة - وما يكتنف ذلك من هشاشة اجتماعية - مع البوح ببعض الحقائق الكبرى التي قد يزعزع الكشف عنها علاقة المثقفين المهاجرين مع شبكات دعمهم والترويج لهم في الدول المضيفة على غرار الجمعيات النسوية والمنظمات غير الحكومية المرتبطة بالهجرة؟ وهل يبدأ الشاعر/ الكاتب بصفة عامّة بقول الحقيقة فقط عندما يتجاوز نرجسيات الشباب وأحلامه، ويدخل مرحلة سقوط الأقنعة تحضيراً للانتقال إلى دنيا الحق؟
"في عام 2022، تمكنتُ أخيراً من شراء منزل خاص سيوفر عليّ ذُل البحث عن سكن ومهانة إيجار دام عقوداً طوالاً". هكذا ختم حميد بارولي عبدو كتابه، وكأنه يكشف للقارئ الموقع الوحيد الذي يخوّل للكاتب قول الحقيقة بصلابة ودون مواربة، ويحل معه شِفرات قصص "سيرة العرفان" بأكملها.
* روائية جزائرية مقيمة في إيطاليا