حمدي أبو جُلَيّل مُغادراً شوارع القاهرة وحكاياتها

13 يونيو 2023
حمدي أبو جُلَيّل في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

"كنتُ، كأيّ صحراوي، خائفاً ومكروباً لا يشغلني في القاهرة سوى مكانَين: المكانُ الذي أُقيم فيه، والمكان الذي أضطرّ للرحيل إليه؛ والشوارع والمسافات الفاصلة بينهما كانت، كما السفر، قطعةً من جهنّم". هكذا يبدأ الكاتب المصريّ حمدي أبو جُلَيّل، الذي غادر عالمنا صباح الأحد الماضي، كتابَه "القاهرة: شوارع وحكايات"، الصادر عن "الهيئة المصرية العامّة للكتاب" عام 2008، بالحديث عن علاقته بالمدينة التي انتقل إليها مطلع الثمانينيّات، تاركاً وراءه أكبرَ واحة طبيعيّة في مصر؛ الفيّوم في شمال الصعيد؛ حيث وُلد عام 1967.

سيجد أبو جليّل نفسه في "دروب لا تختلف كثيراً عن دروب الصحاري: نفسُ الجهامة والقسوة والترقّب، ونفس التهديد بشراك الطبيعة والبشر المختبئة في كلّ جانب"، وسيفكّر في طُرُق تسمح له بالقفز من مكان إلى آخر: طائرة شخصية أو بساط ريح أو أيّ شيء آخر يمكّنه من الوصول إلى الأماكن من دون "مرمطة" الشوارع. لكن، وبدلاً من ذلك، سيعثر على طريقة أفضل؛ هي الكتابة: "سحبتُ دفتراً صغيراً ورحتُ أدوّن معالم الشوارع بعناية فائقة. ولأوّل مرّة، أتمشّى بالشوارع باعتبارها غايةً وليست مجرَّد ممرّات مرهقة للوصول إلى الأماكن".

هكذا، وبدل أنْ يهرب منها، أن يتحاشى المرور بها، سيدخل أبو جليّل إلى شوارع القاهرة، متجوّلاً فيها على مهل، مُسجِّلاً ملامح سكّانها ومعالمها، وباحثاً في مراحلها التاريخية، لتكون النتيجةُ كتاباً يأخذ القارئَ في رحلة ثقافية وتاريخية عبر قرابة سبعين شارعاً؛ من خان الخليلي والخرنفش وبورسعيد والأزهر والدرب الأحمر وأحمد بن طولون في "القاهرة الفاطمية"، مروراً بالجمهورية وعائشة التيمورية والشيخ ريحان ورمسيس وعبد العزيز والفجّالة وطلعت حرب في "القاهرة الخديوية"، والسد البرّاني والصليبة ومارجرجس ومجرى العيون في "مصر القديمة"، وصولاً إلى المنيل والهلباوي وشبرا وجامعة القاهرة وجامعة الدول العربية في "جُزر وامتدادات" أُخرى.

بدل أن يهرب منها، دخل شوارع القاهرة ونقل حكاياتها

دفقٌ سردي بما لا يُحصى من الحكايات؛ ففي شارع الجمهورية، أو إبراهيم باشا، مثلاً، والذي كان أهمّ شوارع العهد الملكي، ينتقل أبو جليّل من "قصر عابدين" إلى مقهىً متواضع بُنيَ قبالته عام 1955، ربّما "ليُحدث التوازُن المطلوب، أو ليُدلّل على فخامة القصر؛ فالأشياء يظهر جمالُها في مقابل نقيضها"، فيُخبرنا بأنّ محمّد خليل قاسم (1922 - 1968) كتب روايته "الشمندورة" على أحد مقاعده، وأنّه كان من ضمن روّاده، أيضاً، الفنّان السوداني سيّد خليفة، والفنّان النوبي علي كوبانا.

مروراً بـ"دار الفضيلة للنشر" و"مسرح الجمهورية"، يصل بنا الكاتب إلى نهاية الشارع، حيث "ميدان الأوبرا"؛ المكان الذي بدأ حريق القاهرة الكبيرُ عام 1952 من أحد مبانيه؛ وهو "كباريه بديعة مصابني"؛ حيث كان أحدُ ضبّاط الجيش المصري يحتسي الخمر رفقة إحدى الراقصات، فوجّه إليه أحد الوطنيّين المصريّين اللوم لأنّه يُمتّع نفسه بينما رفاقُه يُذبحون في الإسماعيلية برصاص الإنكليز، ثمّ تطوَّر الأمر إلى شجار كبير انتهى باندفاع المارّة إلى الكباريه وصبّهم مادّةً حارقة على أثاثه.

لا يكتفي حمدي أبو جليّل، في كتابه، بسرد مثل تلك الحكايات التي يعرف الناس بعضَ تفاصيلها ويجهلون أكثرَها؛ بل يُسجّل ملاحظاته الخاصّة. ومن ذلك، أنّ اختيار أسماء بعض الشوارع والميادين كان وسيلةً للتقرّب من قوىً أجنبية؛ مثل "شارع عبد العزيز" الذي لاطفَ الخديوي إسماعيل السلطانَ العثماني بإطلاق اسمه عليه خلال زيارته مصر، و"شارع أميركا اللاتينية" و"ميدان سيمون بوليفار" اللذين تقرّب بهما رجال ثورة يوليو من حكومات دول أميركا اللاتينية. تقود هذه الملاحظة إلى ملاحظة أُخرى؛ وهي أنّه عادةً ما تكون تلك الأسماء عرضةً للتغيير لو تكدّرَت علاقة الحكومة المصرية بأصحابها؛ مثلما حدث مع الشارع الذي أُزيل اسمُ الملك عبد العزيز منه بعدما ساءت العلاقة بين عبد الناصر والنظام السعودي أيّام حرب اليمن، ثمّ أُعيد إليه مرّةً أُخرى بعدما عادت المياه إلى مجاريها بين البلدَين.

سردٌ يراوح بين التاريخي والمعماري والأُسطوري

يُلاحِظ أبو جليّل، أيضاً، أنّ الشوارع الشعبية البعيدة عن مركز الحُكم والمال والفخامة المعمارية تبدو أكثر استقراراً وهدوءً وتصالُحاً مع أسمائها الأُولى التي تنحصر، غالباً، في أسماء الحِرف والأسواق والمشايخ والأشخاص العاديّين وأسماء الحيوانات، من دون اهتمامٍ بتخليد الشخصيات والأحداث السياسية، رغم أنّها الأجدر بذلك، بالنظر إلى الجماهير العريضة التي تعيش فيها. وفي المقابل، كانت الطبقات الغنّية، عبر التاريخ، تختار مجاوَرة قلاع الحُكم والسُّلطة، لـ"تختبئ فيها بعيداً عن الفقراء، وتجعل مجرَّد الاقتراب منها بمثابة الأحلام التي يصعب تحقيقها بالنسبة لعامّة الناس؛ مثل منطقة غاردن سيتي التي كانت أرضُها عامرةً بقصور الأُسرة المالكة ومن شايعها من المصريّين والأجانب، ومحرَّمةً على عامّة أبناء الشعب المصري".

سيكون هذا الكتابُ بدايةً لسلسلةٍ - لعلّها لم تكتمل - عن القاهرة ومعالمها؛ ففي 2013، أصدر حمدي أبو جلّيل، عن "الهيئة المصرية العامّة للكتاب" عمله الثاني ضمن هذا السياق، والذي حمل عنوان "القاهرة: جوامع وحكايات"، مُقترحاً فيه، أيضاً، رحلةً تاريخية وثقافية عبر مساجد المدينة وسِيَر منشئيها منذ تأسيس الفسطاط؛ أصل العمارة الإسلامية في مصر، خلال القرن السابع الميلادي، وصولاً إلى القرن العشرين، وذلك عبر خمس فصول؛ هي: "قاهرة الولاة"، و"قاهرة الفاطميّين"، و"قاهرة المماليك"، و"قاهرة العلويّين"، و"قاهرة أولياء الله الصالحين".

في الكتاب حكاياتٌ كثيرة بعضُها يتجاوز التاريخي والمعماري ويقترب من الأُسطوريّ؛ مثل حكاية "جامع الأمير فخر الدين عبد الغني" في شارع بُور سعيد (بُني عام 1418م)؛ والذي تُطلَق عليه أيضاً تسمية "جامع البنات"، لاعتقاد البعض أنّ الشابّات سرعان ما يتزوّجن إذا ما دخلنه وقت صلاة الجمعة ومررن بين صفَّي المصلّين في السجدة الأُولى، بينما تَذكر رواية أُخرى أنّ سبب التسمية هو دفنُ الأمير فخر الدين بناته العذراوات السبع فيه، بعد موتهنّ بالطاعون.

كتب حمدي أبو جلَيّل في الصحافة، وعمل، مع إبراهيم أصلان، في سلسلة "آفاق الكتابة العربية" التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة المصرية؛ حيث كان مُديراً لتحريرها حتى إغلاقها سنة 2000، بعد نشرها رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، كما عمل مدير تحرير لسلسة "الدراسات الشعبية" في وزارة الثقافة.

وإلى جانب الكتابَين السابقَين، صدَرت له عدّة أعمال أدبية بين القصّة القصيرة والرواية؛ كان أوّلُها مجموعته "أسراب النمل" عام 1997، والتي تلتها مجموعةٌ ثانية عام 2000 بعنوان "أشياء مطويّة بعناية فائقة"، ثمّ ثالثة في 2010 بعنوان "طيّ الخيام". وفي 2002، أصدر روايتَه الأُولى "لصوص متقاعدون"، ثمّ "الفاعل" (2008) التي حازت "جائزة نجيب محفوظ" في العام نفسه، قبل أن تصدر بترجمة روبن موغر إلى الإنكليزية بعنوان "كلب بلا ذيل" عام 2015، و"الأيام العظيمة البلهاء" و"نحن ضحايا عك" (2017)، و"قيام وانهيار الصاد شين" (2018) التي فازت ترجمتُها الإنكليزية - وقّعها همفري ديفيز (1947 - 2021) وصدرت بعنوان "الرجال الذين ابتلعوا الشمس" - بـ"جائزة سيف غبّاش - بانيبال" للأدب العربي المترجَم إلى اللغة الإنكليزية مطلع العام الجاري، و"يدي الحجرية" (2021).

تتراوح أجواء تلك النصوص بين عوالم البدو الاجتماعية والثقافية وطقوسهم في صحراء مصر، والتاريخ الإسلامي، مع ومضات من سيرته الذاتية؛ وهو الذي كانت تجربُة العمل في مواقع البناء، خلال بداياته في القاهرة، مادّةً لغير قليل من كتاباته.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون