حمادي ذويب.. أصول الفقه التكميلية بين مقدَّس ودنيوي

11 يونيو 2024
تأكيد لمدى تشابك المصادر التكميلية والأصلية
+ الخط -
اظهر الملخص
- يناقش حمادي ذويب في كتابه "أصول التشريع الإسلامي التكميلية بين التقديس والدَّنيَوة" كيفية تطور وتقديس مفاهيم مثل المصلحة والعرف والاستحسان، مشيرًا إلى التداخل بين الأصول الفقهية والواقع الدنيوي والسياسي.
- يتعمق الكتاب في تحليل التوتر بين التقديس الديني والاستخدام الدنيوي للأصول التكميلية، مؤكدًا على الفروق بين النظرة الإسلامية للعلاقة بين الديني والدنيوي والمفاهيم الأوروبية للدنيوية والعلمانية.
- يبرز العمل أهمية النصوص الأصولية والتاريخية في فهم الديناميكيات بين الأحكام الفقهية والسلط السياسية، مقدمًا نهجًا جديدًا في دراسة التشريع الإسلامي وتأثيراته الاجتماعية والسياسية.

ركّزت الأبحاث التاريخية السابقة التي أنجزها مُؤرّخو الفقه، مثل ج. شاخت وب. يوهانسن ووائل حلّاق وغيرهم، على علاقة الأحكام الفقهية بالواقع التاريخي الذي أنتجها. إلّا أنّ هذه الأبحاث، على عُمقها، لم تُشِر إلى علاقة أصول الفقه ومقولاته بهذا الواقع ولا إلى تأثيره المباشر في صياغتها وشرعنتها، وما يتبع ذلك من تقديس ثم من فرضٍ على الوعي الفردي والجماعي من خلال خيارات السُّلَط السياسية الحاكمة. كما تكاد تنعدم الإشارة إلى المسارات المعقّدة في التقديس والتسويغ البشري لأصول الفقه ومصادره وقواعده ومفاهيمه إدراجاً لها في دائرة المُتعالي الإلهي.

وإلى مسارات التقديس هذه يعود الباحث التونسي حمادي ذويب في كتابه الأخير "أصول التشريع الإسلامي التكميلية بين التقديس والدَّنيَوة"، الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، من أجل تسليط الضوء على الظروف البشرية التي أحاطت بإعلاء القواعد الأصولية، مثل الاستحسان والعُرف والمصالح والتخصيص إلى مصافّ المبادئ الإلهية المتعالية التي لا يجوز انتقادها ولا التشكيك في إطلاقيتها.

ليست العلاقة بين الديني والدنيوي ضدّية دائماً

ويَحسُن التذكير، بدءاً، بأنّ مصطلح "دَنْيَوة"، ترجمة لنظيره الفرنسي Sécularisation، الذي يدلّ على ارتباط قيمة ما بمجموع الظروف السياسية والعلاقات الاجتماعية وحتى السياقات الاقتصادية التي تُنتجها، فتجعل من مضمونها انعكاساً لما في ذلك السياق وتعبيراً مُقَدسناً عن عناصره. وأمّا التقديس، نقلاً لمفهوم Sacralisation، فهو المسار البشري الهادف إلى إضفاء مسحة مُتعالية، تُقرن تارةً بالذات الإلهيّة وتارة بالنبيّ وأقواله وأعماله وحتى صمته، بهدف إعلائها لرتبة القاعدة الثابتة الخالدة، وتصويرها في المخيال الجمعي في صورة المرجع الذي لا ينبغي الحَيدُ عنه، وإلّا وقعت الأمّة بأسرها في محاذير الضلال.

قُسّم الكتاب إلى أربعة فصول؛ تناول ذويب في الأوّل منها مبدأ "المصلحة" بين الديني والدنيوي، واستعرض ما طاوله من توسيع لدى الأصوليّين، محلّلاً تجلّياته في الواقع المعيش وعلاقته بالنصّ، ولدى السُّلَط السياسية التي سوّغت استخدامها للقوّة.
وفي القسم الثاني، تعرّض الباحث إلى مفهوم "العُرف" وتطوّره حتى صار أصلاً للتشريع، ممّا أضفى عليه طابعاً مقدّساً، في حين أنّه مجموع الخصائص والتقاليد الثقافية السائدة في سياق ما. وركّز المبحث المُوالي على مبدأ "الاستحسان" وحُجِّيّته بين الدنيوة والقداسة وطريق إثبات مشروعيته وآثار تطبيقه، ولا سيما في مجال الحدود الجنائية. وأمّا الفصل الأخير، فتناول آلية تخصيص العموم، إمّا بأخبار الآحاد أو بالإجماع أو بالمصلحة وحتى بالعُرف.

وهكذا، تعاقبت الفصول الأربعة، بما فيها من مفاهيم ونصوص وشواهد، لتأكيد مدى التشابك بين هذه المصادر التكميلية، وكلُّها عقليٌّ خاضع لإكراهات التاريخ وإملاءات العقل، وبين المصادر الأصلية التي يُفترَض فيها التعالي والمُفارقة. وقد وُفّق الباحث في الجَمع بين العَرض النظري لهذه المفاهيم وما أثارته من سجلّات ذهنية حول حُجّيتها، مع إظهار تضارُب آراء القدماء حول كلّ مبدأ منها، وبين الأمثلة التطبيقية التي استقاها من كتب الفروع (الفقه)، حيث استخدمت تلك القواعد بهذا القدر أو ذاكَ من الدقّة أو التوسّع.

وقد حكمت هذه الفصول بإشكالية التوتّر المستمرّ بين دواعي التقديس وبواعث التوظيف الدنيوي بوجوهه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث تسلّل هذا التوظيف في صُنع القيم وتشكيلها من خلال العودة إلى القواعد التكميلية التي ساقها كلّ مَذهبٍ وجعلها علامة خاصّة به، كعمل أهل المدينة عند مالك، أو القياس لدى أبي حنيفة، أو تلك التي يشترك فيها سائر المذاهب مع تفاوُت في ترتيبها وحجم استخدامها.

يقطع الكتاب مع رؤى التقليديّين وسطحية المستعربين

وبالفعل، طفحت كتب الأصول بأبواب مطوّلة تهدف لشرعنة هذه المبادئ وتبرير فُروعها وأقسامها وتطبيقاتها، وكلّ ذلك جهد بشريّ مَحض، ارتبط أحياناً بمصالح أمراء كان عليهم أن يواجهوا ظروفاً داخلية أو ضغوطاً أجنبية للحفاظ على المنظومة السلطوية والاجتماعية التي يسهرون على استمراريتها.

الصورة
من جامع الزيتونة - القسم الثقافي
مصلّون يستعدّون لأداء صلاة عيد الفطر في جامع الزيتونة بتونس العاصمة، 10 نيسان/ إبريل 2024 (Getty)

ولا أحد يُنكر نزوعَ بعض الفقهاء إلى تقديس القواعد وربطها بتوجُّهات السياسة، ولكن غالبيّتهم كانت تُقرّ بالطابَع الظنّي للأصول كما للأحكام المُنبثقة عنها. فقد كان الفقهاء والأصوليّون واعين بطبيعتها الافتراضية، إذ لا تخلو تحاليلهم الأصولية من تأكيد نسبية هذه القواعد وطابعها الظنّي، بل إنّ عدم اعتماد المذاهب الإسلامية الأُخرى لقواعد ما خالفها دليلٌ قاطع على هذه النسبية وأنّ كلّاً من الأصل النصّي والقاعدة التكميلية، وصولاً إلى الأحكام المُستنبَطة منها، هي وليدة نَسَق فقهي (المذهب). وقد لا تصحّ تلك القواعد خارجَه أو هي تفقد على الأقلّ طابعها الإطلاقي، الذي حاول البعض إضفاءه عليها وعلى الفروع المشتقّة منها.

ومن المعلوم أنّ التوتّر بين المقدّس والدنيوي حاصلٌ ضمن ثنايا النصّ القرآني ذاته، ولا أدلَّ على ذلك من مقولة "الناسخ والمنسوخ" التي تُوحي بتغيُّر الأحكام تبعاً لتغيير ظروف الوحي وتطوّر الدعوة الفتيّة واستحكام سُلطتها التدريجي. كما أنّ توسيع المفاهيم التكميلية واعتمادها يرجع إلى فهم مقاصدي عميق لما حصل في الفترة التأسيسية، حقبة "السلَف"، والتي لوحظ، بعد الاستقراء الدقيق، أنّها تُراعي مثل تلك المبادئ. 

فإذا سلّمنا بأنّ النص التأسيسي هو مَن أمَرَ بالتفقُّه، رديف الاستنباط والمُقايسة وإعمال الرأي، في ما يُستحدث من القضايا وهي دائمة الحدوث، لم يعُد من اليسير الفصل بين ما هو مُقدّس صرف وما هو بشريّ صرف، بل كان كلُّ حكمٍ فرعي بالضرورة وليدَ تفاعل بين النصّ والتاريخ، أي بين التعالي والمحايثة. وعلينا أن نتساءل: هل يوجد نصٌّ خارج التاريخ أصلاً؟ باعتبار كلّ قراءة تأويلاً خاضعاً لإكراه الواقع، وفيها تتدخّل الذات القارئة بظروف القراءة وما يشوبها من تأثيرٍ وتأثُّر لا يُمكن التحكّم فيهما.

وهذا قطعاً إذا تركنا جانباً التوظيف السياسي الفجّ للأصول التكميلية، وهو ما رفضه الفُقهاء أنفسهم وطالما حاربوه. ولا يُمكن البتّة اختصار تاريخ أصول الفقه والفقه ذاته إلى مجرّد توظيفات سياسية فجّة. ولا ننسى أخيراً أنّ ثنائية المُقدَّس والمُدنَّس التي صاغتها الأبحاث الأنثروبولوجية مطلع القرن الماضي وما تبعها من مفاهيم "الدَّنيَوَة" و"العَلمَنَة" التي تُطبّقها أوروبا مُذّاك إلى الآن، لا تُناسب تماماً خصوصية السياق الثقافي العربي- الإسلامي، حيث يمتزج العاملان الديني والدنيوي إلى درجة يَستحيل فيها التمييز ضمن الحُكم الواحد بين ما يُعدّ نصّاً مُتعالياً وبين المجهود البشري في تحيينه.

والعلاقة بينهما ليست دائماً ضدّية ولا هي قائمة على التعارُض البنيوي، إذ يتعايش العاملان في قلب الحُكم الواحد ولا ينفصل أحدهما عن الآخر. ومن أطرف ما جاء في الآية: "ويُطعمون الطعام على حُبِّه..."، كيف يكتَسب الإطعام بما هو فعل مادّي بحت دلالة ما ورائية روحية، ترتبط بحُبّ الله طمعاً في جنّته مع مواساة المسكين والفقير. وعلى هذا المنوال تسير تقريباً كلّ الأحكام الفقهيّة وقواعد الأخلاق والايمان.

يفتح هذا الكتاب إذن نهجاً أصيلاً في دراسة أصول الفِقه تَقطع مع رؤى التقليديّين وسطحية المستعربين، وتتجاوزها بفضل ما فيها من تضلّع تام في أدبيّات هذا الحقل المعرفي الوعر ونصوصِه التي تتقاطع فيه مقولات المنطق والدلالة والفقه والمقاصد بمتغيّرات التاريخ الجارفة.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس
 

المساهمون