حسين ماضي.. اللوحة حياة أُخرى

21 يناير 2024
حسين ماضي (1938 - 2024)
+ الخط -

رحيل حسين ماضي، هو، قبل كلّ شيء، رحيل صديق. لم يكُن العبور إلى فنّه وإلى شخصه سهلاً، لكنّ الوصول إليه حدثٌ بحدّ ذاته، ويبقى ماثلاً كذلك. كنتُ بإزائه الكاتب، وكان بإزائي الفنّان، وأمكن لهذه الشراكة أن تغدو لحظة في حياتي، وربّما في حياته. لذا، فإنّ خسارته هي خسارة لكُلّ ما يعنيه الفنّ لي. 

حسين ماضي لم يكُن بالنسبة إليّ الشخص، بقدر ما هو الفنّان، والأرجح أنّ الفنّان هو ما يبقى منه؛ الفنّان الحاضر كلوحة وكمنحوتة، والحاضر وراء الشخص وربما إلى جانبه، لكنّه قد يكون أيضاً أقلَّ شبهاً به، بل قد يكون، على نحو ما، خلافه. الأرجح أنّ حسين ماضي كان متوارياً في لوحته ومنحوتته، اللتين كانتا دائماً حياة أُخرى، بل كانتا دائماً شخصه الخفيّ والضمنيّ.

المتجوّل داخل بيته في بيروت، سيمرّ دائماً بهذه الأعمال التي لا تُرحّب فوراً به، هي في الغالب لا تقدّم هدية لأحد، هي لا تماري ولا تغنّي ولا تساير، ولا تمنح نفسها بسهولة. إنّها أحداث على الجدار، هي متكاملة إلى الحدّ الذي لا تحتاج فيه إلى ناظر، أو إلى متفرّج، متكاملة بحيث أنّها أقرب إلى الصمت، أقرب إلى النأي بنفسها، وإلى نوع من الوحدة والاستقلال. لكنّك، وأنت تجول بينها، تشعر بأنّها في اكتفائها بذاتها، في صرامتها، في اكتمالها، في هذا الاستقلال عن المتفرّج، تملك الوجود الذي يماثل وجوده، بل تملك حياة بإزاء حياته، وحضوراً في مواجهة حضوره.

قد يكون من الأخِيرين في جيله، لكنّه مُفرَد بينهم

إنها لا تثرثر، ولا تسترسل، ولا تقاسمه نفسها وقصّتها. لكنها بهذه الوحدة وذلك الاكتفاء، تُجاور، وتُقابل، بل وتُصادق. يمكنك هكذا أن تُعايش الفنّان من خلال لوحته، بل يمكنك أن تحادثه وتكلّمه وتسمع منه، من خلالها أيضاً. يمكنك، أكثر من ذلك، أن تستحضر قصصاً من هذه الأعمال، وأن تشعر بما تُكنّه، ولوحات حسين ماضي ومنحوتاته هي أوّلاً ما تُكنّه وما تنطوي عليه، بدون أن يكون هذا سرّاً وخفاءً.

الصورة
جنة عدن - القسم الثقافي
"حديقة عدن"، طباعة حجرية، 70 × 100 سم (2003)

إذا كان من ميزةٍ للوحة ماضي ومنحوتته فهي الصراحة، وهي الوضوح، وهي قبل كلّ شيء النواة والعمق، هي صلب الأشياء، وأساسها العضوي، وكلمتها الأخيرة. لا تنطوي لوحاته ومنحوتاته على غوامض وعلى خبايا، مع ذلك فإنّ الالتقاء بها يُضيف للمتلقّي، يُفعم المتلقّي، إذ إنها بإزائه تملك وجوداً كاملاً، تملك حضوراً وافياً. لا نستغرب إذا حَملت لنا هذه المزخرفة طاقة للعب. لا نستغرب إذا وجدنا في هذه الحروفية، بأبجديتها الحادّة والقاطعة والمسنّنة، والتي قد تستمد من المسمارية بدون أن تكونها، إذا وجدنا فيها ما يشبه أن يكون درامية وتنازُعاً، بل ما يشبه اللعب.

اللوحة هي هكذا لعبة المتفرّج، تمنحه اللوحةُ قصّةً قد تكون له. النساء اللواتي يبنيهنّ حسين ماضي ممّا يشبه أن يكون خطّاً واحداً، هنّ بهذا الخطّ ينقلن الشبق والرغبة، هكذا ينطوين على صناعة الشهوة، التي هنّ مصنوعات منها. لا يصرخن بذلك، ولا هو يسيل منهن أو ينبثق، إنّه الخطّ الذي صُنِعن منه، الدوائر والزوايا وأنصاف الدوائر والمنحنيات التي صُنعنَ منها، إنه وجودهنّ العارم والممتلئ والمتكامل، المفردة التي تكوّنّ منها.

الصورة
المزهرية الوردية - القسم الثقافي
"المزهرية الوردية"، مواد مختلفة على قماش، 51 × 51 سم (2008)

المرأة هنا مفردة لكن من رغبة، صامتة بقدر ما هي مفعمة. قد تكون لوحة ماضي أو منحوتته مختزَلتَين إلى الرئيسي والعضوي، إلى الأساس. لكنهما مع ذلك مرسومتين بالعصب الذي فيهما، بل هما هذا العصب الذي يحوّلهما حدثاً قائماً بذاته. إنّهما هذا العصب الذي لا يثرثر، ولا يرفع صوته، بقدر ما ينمّ وينقل. إنّهما لا تقولان الرغبة بقدر ما هما الرغبة بذاتها. قد تكون حيوانات وأزهار ماضي هي أيضاً هذه المفردة الوحيدة، إنّها الأساس والعضوي، إنّها حركتها وحقيقتها البسيطة والجسدية.

حسين ماضي قد يكون من الأخِيرين في جيله، لكنّه مُفرَد بينهم، بل هو بين قلائل منهم صنعوا لأنفسهم لوحةً وعالماً خاصّاً. لوحة ماضي ليست استطراداً للوحة أخرى في الفن الغربي. كما أنّ هذه اللوحة، ليست بالغناء والتنميق اللذين يعمران لوحات كثيرين، بل يطبعان جانباً كبيراً، قد يكون الأكبر، من الفن اللبناني في تلك الآونة. لوحة حسين ماضي لا تمتّ إلى الفن الصالوني الذي ساد يومها، ليس عذباً ولا سكرياً ولا مغنّياً، بل إن حروفيته المسنّنة، ليست شيئاً سوى الشفرات والقسوة، سوى عنف مرصود حاضر في صمت لا نعرف متى ينقلب إلى حركة، وكيف تبدو مادّته نفسها وخطوطه عودةً إلى الأصل، إلى الرغبة والشوق الأوّليّين. يمكن بهذا أن نفهم خروج حسين ماضي وانفراده اللذين كانا بحقّ لوحةً خاصّة، بل عالَماً.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون